خطة الاحتلال الجديدة للعراق... أهدافها ومآلها المتوقع!
تدرك الإدارة الأميركية حجم المأزق الذي وقعت فيه في العراق, ليس لجهة الخسائر المتصاعدة بشرياً ومالياً فقط, ومعها الشماتة الدولية, وانما, وهو الأهم, بما يتعلق بالمسألة الداخلية والتأثير المتوقع لما يجري على الانتخابات الرئاسية نهاية العام المقبل, اذ يدرك صقور البيت الأبيض أن الفشل في إحداث تحوّل مهم في مسار المعركة داخل العراق وطبيعة الوجود العسكري الأميركي فيه سيعني أن الرئيس بوش لن يعود إلى البيت الأبيض ثانية, بل إن مصالح الولايات المتحدة برمتها في المنطقة والعالم قد تغدو مهددة كنتاج لهزيمة تشبه هزيمة فيتنام.
من هنا كان استدعاء بول بريمر على عجل إلى الولايات المتحدة لتدارس الموقف, وهو ما أنتج ما يمكن وصفه بالخطة الجديدة للتعاطي مع المعضلة التي حملها الحاكم المدني الأميركي إلى العراق, فيما لم يكن أمام رئيس المجلس الانتقالي العراقي الحالي (جلال الطالباني) سوى قراءتها في مؤتمر صحافي بوصفها نتاج "تفاوض" بين مجلسه وإدارة الاحتلال أو ادارة "التحالف", كما يحلو لهم وصفها, وكذلك بوصفها انجازاً يؤكد صحة المسار الذي اختطه مجلس الحكم والقوى الممثلة فيه!
خلاصة الخطة الجديدة هي إنهاء الاحتلال وبقاؤه في الوقت ذاته. تماماً مثلما حدث في أفغانستان, فالحاكم او الرئيس أميركي الجنسية, والأهم, المرجعية, أفغاني الهوية. أما القوات الأميركية فتتمركز في معسكرات بعيدة عن متناول المقاومة الأفغانية.
لسان حال المقاربة السياسية الجديدة يقول إن استمرار وجود القوات الأميركية في الشوارع العراقية على النحو القائم سيعني نزيفاً متواصلاً على الصعيد البشري والمالي. أما الحل فهو أن يتولى العراقيون مسؤولية الأمن, والأمن هنا يتضمن الأمن المدني, والأخر الذي يلاحق قوى المقاومة, بصرف النظر عن استهدافها للقوات الأمريكية وحدها أم اضافت اليها الشرطة العراقية والمؤسسات المدنية أو الدولية. ولما كان حدوث ذلك مستحيلاً وأقله صعباً بوجود قوات الاحتلال في صورتها الطبيعية كقوات احتلال تفرض سطوتها على كل شيء, فلا بد من صيغة سياسية تجعل من قوات الاحتلال قوات صديقة تتواجد بدعوة من الحكومة العراقية ذات السيادة. تماماً مثلما يحدث في لبنان (هل استخدم الأميركيون هذا الوجه من التشابه, ام سيستخدمه أعضاء مجلس الحكم لاحقاً¿!).
المجلس الانتقالي الذي سيشكل أو ينتخب نهاية أيار 2004 يشبه إلى حد كبير وفق التصور الأميركي, ما يعرف بـالـ "لويا جيرغا" الأفغانية, وسيقوم المجلس المذكور بانتخاب حكومة عراقية موقتة تمارس السياسة والسيادة, او هذا ما يفترض, وهي التي ستمنح شرعية الوجود لقوات الاحتلال, ولكن ليس بهذه الصفة, وإنما بصفتها قوات صديقة تساعد العراقيين على تحقيق الأمن الكامل والسيادة.
لهذه الصيغة المدروسة أميركياً جملة من الفوائد الآنية حال تطبيقها, لعل أهمها إتاحة الفرصة لإعادة عشرات الآلاف من القوات الأمريكية إلى بلادها, لأن الحاجة لن تعود ماسة لوجودهم. ولا شك أن هذه الصورة ستفيد بوش في معركته الرئاسية, وستبعد شبح فيتنام عن الوعي الأميركي. أما الأهم من ذلك فهو منح المصداقية لخطاب مجلس الحكم والقوى المتعاونه معه بالتأكيد على صحة مسارها, من حيث ان الاحتلال لم يأت من أجل البقاء وإنما من أجل إزالة نظام صدام حسين الدموي, ولا شك أن ذلك سيساعد تلك القوى على مزيد من الانحياز للبرنامج الجديد لعراق المستقبل وفق تصوراتها. يضاف إلى ذلك تراجع حجم الخسائر الأميركية في صفوف من تبقى من قواتها داخل العراق, بعد تخندقها في قواعد بعيدة عن متناول رجال المقاومة, والأهم بسبب قدرة الأجهزة الأمنية العراقية الجديدة والمتعاونين معها على مطاردة قوى المقاومة على نحو أكثر كفاءة من القوات الأميركية التي لا تعرف العراق وأهله ولغته.
من المؤكد أن قصة "الإرهابيين والبعثيين" ووقوفهم خلف المقاومة ومعها استمرار حضور صدام حسين في المشهد السياسي سيساعد على منح دفعة مهمة للمسار الجديد, فالشيعة والأكراد على وجه الخصوص, فضلاً عن آخرين من السنُة, لا يمكنهم استيعاب عودته من خلال المقاومة, والأميركان يدركون هذه العقدة ويلعبون عليها على رغم ادراكهم أن المقاومة في معظمها بعيدة عن البعث وصدام, كما أن مشاركة مقاتلي الخارج فيها جد محدودة, وهم كذلك مجرد متطوعين عاديين من محبي الجهاد مثل اولئك الذين قدموا خلال الغزو الأميركي, وليسوا "وهّابيين" يكفرون الشيعة كما يشاع لتخويف الشارع الشيعي وإبعاده عن التفكير في منح الغطاء للمقاومة, وأقله التردد في التعاون ضدها.
نحن إذن بإزاء خطة مدروسة هدفها نقل المعركة من معركة احتلال ومقاومة إلى معركة داخلية بين حكومة عراقية ذات سيادة مزعومة وبين متمردين يريدون استعادة وضع قديم مرفوض من قبل أكثرية العراقيين. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو المتعلق بالمستقبل, وما اذا كان بإمكان الخطة الجديدة أن توقف المقاومة وتجنب الولايات المتحدة مأزق فيتنام¿
بداية من العبث القول إن هدف المقاومة هو إعادة صدام حسين إلى السلطة كما "بشّر" في إحدى تسجيلاته, ولو صحّ ذلك لغدا ممكناً التوقع بأن جزءاً كبيراً الشعب العراقي غير الانحياز لقوات الاحتلال والعمل على مطاردة المقاومة كما يفعل كثيرون الآن بسبب ربط المقاومة بالوضع القديم, فالمعطيات على الأرض تشير إلى أن المقاومين لهم منطلقات اسلامية ووطنية تريد التخلص من الاحتلال, وإذا أمكن التخلص منه بفعل ضغط المقاومة والجهود السياسية فان استمرارها لن يكون مطلباً, اللهم إلا من أجل الوصول إلى الاستقلال الكامل والسيادة الحقيقية وليس الشكلية. والحال أن القوى السياسية العراقية هي جزء من شعب عريق وأمة حية ولن تقبل الاستقلال المشوّه, وإذا فعلت ذلك في البداية فإنها لن تقبله بعد ذلك لأنها لن تملك سوى الانحياز إلى روح شعبها وأمتها المناهضة للغطرسة الأمريكية والاسرائيلية.
خلاصة القول هي ان المقاومة ستتواصل ضد قوات الاحتلال بشكل من الأشكال, حتى لو طاردتها السلطة العراقية. تماماً كما يحدث في أفغانستان, مع فارق الكفاءة, لكن ذلك سيكون حافزاً على الوصول إلى صيغة سيادية كاملة للعراق, وبذلك تكون المقاومة قد حققت اهدافها حتى لو قطف الثمار عراقيون آخرون, مادام المسار الذي يتبنونه هو الديموقراطية الحقيقية التي تحترم هوية العراق وشعبه, وليس المشوّهة على الطريقة العربية المعروفة, أو الحكم التابع على طريقة "كرزاي" أفغانستان.