رحلة "الهروب الكبير" من المستنقع العراقي!
يؤكد العارفون ببواطن الأمور في أروقة البيت الأبيض¡ أن
أول ما يطلع عليه
الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش صباح كل يوم هو التقرير
اليومي للمخابرات
المركزية الأمريكية الذي يحدد طبيعة الأخطار والتحديات
التي تواجه السياسة
الأمريكية وخاصة في الإطار الخارجي. وفي أكثر من حوار
وتصريح صحفي لبوش
سبق له ان لمح إلى أن تقارير المخابرات تشكل المصدر
الأول لأفكاره وقراراته¡
ولهذا لم يكن غريباً ذلك التحول المفاجىء في أولويات بوش
وتوجهاته حيال
الوضع في العراق¡ بعد أن تلقى بوش تقرير مدير محطة
المخابرات الأمريكية في
العراق عن وضع المقاومة العراقية للاحتلال الأمريكي.
فقد أشار هذا التقرير الى معلومات استراتيجية خطيرة
مفادها أن حقيقة
"المقاومة العراقية" تختلف تماماً عن التصورات الأمريكية
السائدة¡ فهذه
المقاومة العراقية تحظى بتأييد متعاظم في صفوف الشعب
العراقي¡ كما أنها تمتلك
قدرات تنظيمية كبيرة¡ وان هناك مؤشرات تشير الى أن
المقاومة العراقية يمكن ان
تمتد بطول وعرض الأراضي العراقية من الشمال الى الجنوب
خلال وقت قصير¡ فلا
تظل متركزة في بعض المناطق "كالمثلث السني" في بغداد
مثلاً. وتحدثت
المعلومات الواردة من بغداد عن أن هناك 50 مليون قطعة
سلاح مازالت موجودة بحوزة
العراقيين¡ ومليون طن من الذخائر¡ كما ان المنخرطين في
صفوف المقاومة
العراقية كما جاء في تقرير الاستخبارات الأمريكية لا
يقلون عن 50 ألف مقاوم
وان أعداد المنضمين الى المقاومة في تزايد أو تصاعد
مستمر. في ضوء هذه
المعلومات الخطيرة¡ لم يكن غريباً ان يستدعي بوش حاكمه
المدني في العراق بول
بريمر على عجل الى البيت الأبيض في واشنطون لمناقشات
عاجلة ترتبت عليها
إعادة نظر تبدو فاصلة في موقف إدارة بوش من كيفية إدارة
الوضع في العراق. وقد
ظهرت علامات ذلك في تصريحات بريمر ومستشارة الأمن القومي
كوندليزا رايس
بعد
محادثات بريمر العاجلة في واشنطون¡ حيث بدأت واشنطون
تتحدث عن تسريع
عملية نقل السلطة الى العراقيين ودفع مجلس الحكم
الانتقالي الى القيام بمهام
أكبر في إدارة الشئون العراقية أو إعادة النظر في بعض
مهامه. ويمكن القول
أن عمليات المقاومة العراقية الضارية والمتصاعدة قد أكدت
صدق توقعات تقرير
المخابرات الأمريكية مما دفع بوش لإعادة النظر في
تصوراته وسياساته تجاه
العراق¡ باتجاه البحث عن "استراتيجية للخروج" من
المستنقع العراقي¡ كما
عبّر عن ذلك دبلوماسي عربي في واشنطون التقى أركان إدارة
بوش مؤخرا. فقد كان
التفكير في الإسراع بنقل السلطة الى العراقيين بمثابة
"تفكير خيالي" حتى
وقت قريب¡ لدرجة ان الأمريكيين اعتبروا مطالب الفرنسيين
والأوروبيين بنقل
السلطة للعراقيين بأنه "تفكير غير واقعي"¡ لكن ضراوة
المقاومة العراقية¡
وإدراك بوش زيف المعلومات التي صورت له هذه المقاومة
بأنها مجموعة من القتلة
من عناصر فدائيي صدام وحزب البعث وبعض عناصر تنظيم
"القاعدة" المتسربين
عبر الحدود من الخارج¡ وان ظاهرة "المقاومة العراقية" هي
أكبر من ذلك ومرشحة
للاتساع نطاقا ونشاطا وعديدا¡ دفع بوش لمحاولة البحث في
كيفية احتواء
أخطاء
التورط الأمريكي في العراق قبل اشتداد وطأة ضغوط حملة
الانتخابات
الرئاسية الأمريكية بعد نحو عام من الآن¡ وخاصة بعد ان
اصبح "الملف العراقي" على
رأس أجندة الموضوعات المطروحة على مناقشات حملة
الانتخابات الرئاسية
الأمريكية. وفي ذات الوقت¡ ظهرت عدة مؤشرات على اتساع
نطاق التذمر الداخلي
الأمريكي من سياسة بوش في العراق¡ مما يشي بإمكانية
تدهور الموقف بالنسبة الى
المستقبل السياسي لبوش وفرص فوزه في الانتخابات القادمة
ولا سيما إذا
استمر تصاعد المقاومة العراقية واستمر تصاعد أعداد
القتلى الأمريكيين في
العراق نتيجة هذه المقاومة. وكان من أبرز ملامح التذمر
الداخلي الأمريكي حيال
الوضع في العراق وسياسة بوش هناك ما يلي:
: تدهور شعبية بوش في
استطلاعات الرأي العام¡ وتراجع نسبة المؤيدين لإعادة
انتخابه والموافقة على
سياساته من 75% الى نحو 50% في مطلع نوفمبر الجاري¡ وهي
نسبة خطرة مرشحة
.
كما كشف الاستطلاع نفسه ان نحو 60% من الأمريكيين
يعتبرون ان أمريكا تنفق
اموالا طائلة في العراق في حين يواجه الاقتصاد الأمريكي
اوضاعا صعبة في
الداخل. وكل هذه مؤشرات لابد ان تثير قلق بوش وانزعاجه
لأنها تؤكد ان
سياسته في العراق ستحدد الى حد بعيد مستقبله السياسي¡
ومدى قدرته على تعزيز فرص
إعادة انتخابه في انتخابات
والوضع في فيتنام. وفي هذا الإطار أعلن السيناتور جون
ماكين الذي خاض
الحرب في فيتنام: "ان هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها
شبها بين العراق
وفيتنام¡ بسبب التناقض بين تصريحات الإدارة وحقيقة ما
يجري على الأرض". في حين
طالب المرشح آل شارتون وهو قس مسيحي بروتستانتي بضرورة
إعادة القوات
الأمريكية من العراق فورا مؤكدا ان الشعب الأمريكي لا
يريد المشاركة في
"عودة المظاهرات الحاشدة المناهضة للحرب ولسياسة بوش في
العراق¡ وكانت بداية تلك المظاهرات التي شهدتها بعض
الولايات الأمريكية في
شهر
اكتوبر الماضي والتي نظمتها مؤسسات وجمعيات أهلية منها
"منظمة المتحدين
من أجل السلام والعدالة"¡ ومنظمة "التحرك الآن لوقف
الحرب وإنهاء العنصرية"
المعروفة بــ "آنسر"¡ و"جمعية عائلات العسكريين تتكلم"¡
والتي طالبت
جميعها بسحب القوات الأمريكية من العراق. وهناك مظاهرات
حاشدة لا يتوقع ان يقل
عدد المشاركين فيها عن مائة ألف مشارك تنتظر بوش في لندن
لدى زيارته
لبريطانيا تعبر عن معارضتها لسياساته وخاصة في العراق.
ورغم ان ادارة بوش اظهرت
عدم اكتراثها بالمظاهرات الشعبية¡ الا ان اقتراب
الانتخابات الرئاسية
القادمة خلال اقل من عام يجعل هذه المظاهرات تحتل أهمية
بالغة لأنها لاشك تؤثر
على اتجاهات تصويت الناخبين ضد بوش الأمر الذي يثير قلق
فريق بوش
الانتخابي. ومن هنا¡ فان حديث اركان ادارة بوش عن
"استراتيجية للخروج" من العراق¡
لا يعدو ان يكون في رأينا بمثابة بدء العد التنازلي او
العكسي لرحلة
"الهروب الأمريكي الكبير" من المستنقع العراقي خوفا من
ازدياد تفاقم المأزق
الأمريكي في العراق¡ وفي محاولة للخروج بأقل الخسائر
وقبل ازدياد نقمة الشعب
الأمريكي حيال إدارة بوش إذا ما تصاعدت أعداد الخسائر
البشرية الأمريكية
في
العراق¡ والتي تؤكد كل المؤشرات انها ستكون في تعاظم
وتنام مستمرين¡
وخاصة بعد ان اتسع نطاق عمليات المقاومة ليطال القوات
المتحالفة بعد الهجوم
على قيادة القوات الإيطالية في الناصرية والذي أدى الى
مصرع 17 جنديا
إيطاليا مما فجر أزمة عاصفة في داخل ايطاليا بات فيها
موقف برلسكوني رئيس
الوزراء اليميني المتطرف والمتحالف مع إدارة بوش اكثر
اهتزازا وحرجا¡ وهو الأمر
الذي يهدد بجعل امريكا معزولة دوليا أكثر فأكثر في
العراق إذا ما قررت هذه
الدول الحليفة نتيجة تزايد الضغوط الداخلية سحب قواتها
من العراق. وقد ظهر
ذلك ابتداء في موقف اليابان التي قررت ارجاء ارسال
قواتها الى العراق بعد
الهجوم على القوات الايطالية في الناصرية¡ وارسال بعثة
الى بغداد لتقصي
الأوضاع على الطبيعة قبل اتخاذ قرار بشأن ارسال القوات
اليابانية. ورغم ان
إدارة بوش تتعمد التستر على حقيقة القتلى الأمريكيين في
العراق¡ واتبع
البنتاجون استراتيجية منع ظهور صور "توابيت القتلى" أمام
وسائل الإعلام وعدسات
التليفزيون تجنبا لاستثارة الرأي العام الأمريكي¡ وإصرار
اركان بوش على
التظاهر بالثقة وعدم التعبير عن الإحساس بالمأزق¡ حتى ان
بوش اعتبر إعادة
النظر في سياساته في العراق لا تعني البحث عن وسيلة
للهروب¡ الا ان كل
المؤشرات وواقع الحال يؤكد ان بوش يسعى الى انقاذ وضعه
السياسي بالبحث عن
مخرج يحفظ قدرا من ماء وجه ادارته وتجنب الظهور بمظهر
الفشل. وقد اعتبرت
صحيفة الواشنطون بوست "انه بالنسبة الى إدارة مثل إدارة
بوش تتجنب الاعتراف
بارتكاب اخطاء¡ فان القرارات الأخيرة الخاصة بإعادة
توجيه السياسة
الأمريكية في العراق هي اعتراف مفتوح بأن الموقف قد وصل
الى نقطة الكارثة". وفي
تقديرنا¡ انه على الرغم من ان إدارة بوش تكرر القول انها
لن تنسحب من العراق
قبل ان تنجح في بناء حكم ديمقراطي في هذا البلد¡ الا ان
هذا الموقف وبعد
اكتشاف إدارة بوش لسوء تقديراتها وحساباتها بشأن الوضع
العراق في مرحلة ما
بعد اسقاط نظام صدام¡ لن يكون موقفا مبدئيا مركزيا لا
تتراجع عنه الولايات
المتحدة. فحين تأتي لحظة المفاضلة بين "اقامة نظام
ديمقراطي في العراق"
وبين تجنب خسائر بشرية فادحة في صفوف القوات الأمريكية
نتيجة تصاعد عمليات
المقاومة¡ فان ادارة بوش رغم تظاهرها بالصمود والعناد
والإصرار على مواقفها
لن تستطيع مواجهة خطر البقاء الدامي في العراق¡ وستفضل
سحب قواتها وتقليص
وجودها بشكل قياسي¡ فتجنب احتمال عودة "عقدة فيتنام"
الى العقل الأمريكي
اهم لدى امريكا من "بناء ديمقراطية في العراق". وخاصة
إذا علمنا ان بناء
الديمقراطية في العراق ليس هو الهدف الحقيقي لغزو
واحتلال العراق وان
الهدفين المحوريين لهذا الغزو هما الاستيلاء على النفط
العراقي وتعزيز أمن
اسرائيل بالقضاء على شبح "التهديد الاقليمي العراقي".
لكن تبقى احدى النقاط
المسببة للحرج بالنسبة الى إدارة بوش هي الفشل الذريع
حتى الآن في القبض على
صدام حسين¡ ويخشى بوش ان يخوض معركة الانتخابات في حال
ظل صدام طليقا في
ان يؤثر ذلك بشكل حاسم على اوضاعه الانتخابية واضعاف
مركزه حيث انه وعد
مرارا بالتخلص من صدام¡ ولكن استمرار اختفاء صدام ومعه
بن لادن سيكون مؤشرا
على فشل سياسات بوش الذي خاص حربين ولم يستطع القضاء على
خصميه البارزين في
هاتين الحربين في افغانستان والعراق. لهذا لاحظنا مؤخرا¡
إصدار بوش
توجيهاته بإنشاء جهازين سريين خاصين لملاحقة صدام وبن
لادن¡ بأمل ان يكون القبض
على أحدهما جائزة يمكن استغلالها اعلاميا على نطاق واسع
في موسم
الانتخابات على نحو يؤثر بشكل ايجابي يصب في مصلحة بوش
وتدعيم مركزه الانتخابي
ووضعه
السياسي الآخذ في التدهور والتراجع. إذ يدرك بوش ان
الناخب الأمريكي الذي
يتأثر كثيرا بثقافة الأفلام الهوليوودية وتقاليد رعاة
البقر "الكاوبوي"¡
سوف يهلل كثيرا لبوش فيما لو ظفر بأحد خصميه سواء كان
صدام أم بن لادن وقد
يغطي مثل هذا الحدث على الصورة السلبية الآخذة في
التعاظم عن فشل إدارة
بوش في العراق¡ كما يمكن ان يشوش على القتلى والخسائر
البشرية الأمريكية في
العراق. لهذا فان من المتوقع ان تتكثف خلال الشهور
القادمة خطط البحث عن
صدام وبن لادن¡ وفي ذات الوقت ستحاول إدارة بوش الإسراع
بخطى تكوين سلطة
عراقية يمكن نقل مسئوليات وسلطات واسعة لها تحت الاشراف
الأمريكي بأمل ان
يساعد ذلك على تقليص وطأة المقاومة العراقية من ناحية¡
وتقليص حدة
الانتقادات الداخلية في أمريكا لسياسة إدارة بوش في
العراق من ناحية أخرى¡ وخاصة
بعد ان اصبح الملف العراقي الموضوع الرئيسي في حملة
الانتخابات الرئاسية.
لكن هناك شكوكا قوية في قدرة امريكا على الخروج بسلام من
المأزق العراقي¡ او
ان تنجح في ترتيب نقل سلطة للعراقيين يحظى بالمشروعية
والمصداقية والقبول
عراقيا ودوليا. فمجلس الحكم الانتقالي يعاني أزمة
مصداقية¡ حتى ان
الأمريكيين انفسهم باتوا يوجهون انتقادات علنية له
ويعتبرونه قد فشل¡ وان
اعضاءه يهتمون بمصالحهم الخاصة أكثر من إدارة الشئون
العامة للدولة في
العراق. فضلا عن اتهام باول لإعضائه بالافتقار الى
الصفات القيادية. ومن جانب
آخر¡ اصبح اعضاء مجلس الحكم الانتقالي أكثر حذرا واقل
حماسا بعد مقتل
رفيقتهم عقيلة الهاشمي وعدم ترحيب القطاعات العريضة من
الشعب العراقي بهذا
المجلس واعتباره "ألعوبة" بأيدي قوات وسلطات الاحتلال.
ولا يبدو من مخرج مشرف
لإدارة بوش من المستنقع العراقي¡ سوى الاسراع بالاعتراف
بالخطأ (وان كان
هذا مستبعدا من قبل هذه الإدارة التي تتسم بالغطرسة
والتعالي) وان يتبع
الاعتراف بالخطأ تسليم الملف العراقي للأمم المتحدة
لتشرف على عمليات ترتيب
نقل السلطة للعراقيين ووضع دستور ديمقراطي دائم وإجراء
انتخابات عامة تحت
اشراف دولي تؤول الى انتخاب حكومة عراقية تحظى بالشرعية
داخليا وخارجيا.
لكن اغلب الظن¡ ان إدارة بوش لن تقدم على مثل هذه الحلول
الجذرية والخطوات
العملية في المستقبل المنظور خشية اتهامها بالفشل مما
يؤثر على فرص فوز بوش
في الانتخابات القادمة. كما ان المحافظين الجدد الذين
دفعوا بوش لخوض حرب
العراق لتدشين "السياسة الامبراطورية الأمريكية" ولخدمة
اهداف اسرائيل في
المنطقة سيدافعون بشراسة ضد تراجع امريكي سريع من
العراق. لكن الواقع الذي
تفرضه المقاومة العراقية والتي تزيد من فداحة المأزق
الأمريكي يوما بعد
الآخر قد يعجل بقلب كل هذه الحسابات رأسا على عقب¡ ويدفع
إدارة بوش الى
ترتيب خروج سريع من المستنقع العراقي تجنبا لكارثة
سياسية واستراتيجية أكبر
قبل فوات الأوان