الاحتلال يعتقل أسبابه!.
لو صحّ ما يقوله علماء النفس عن سايكولوجيا الديكتاتور¡
والإفراط في نرجسيته¡ فإن لحظة سقوطه قد تكون أشدّ
اللحظات في حياته توهجاً¡ لأن صوره في أيام الحكم تملأ
الصحافة المحلية في بلاده¡ لكنها تملأ الصفحات الأولى من
صحف العالم كله وبمختلف اللغات لحظة السقوط¡ وصدام حسين
شغل الناس ربع قرن على الأقل¡ وحاول أن يملأ الدنيا
أيضاً¡ فالحروب الثلاث التي خاضها أو خيضت معه لم تكن
ذات أيام معدودات.لكن حاجة الولايات المتحدة إلى
استكمال انتصار ناقص¡ دفعتها إلى المبالغة في التعبير عن
إلقاء القبض على رئيس جمهورية سقطت جمهوريته قبل أكثر من
سبعة أشهر¡ وتوارى صدام بحيث لم يصدر عنه سوى بضع رسائل
كانت موضع شك¡ وحاولت جهات عدة التقليل من شأنها.
بإلقاء القبض على صدام حسين¡ بغض النظر عن الكيفية أو
التقنية التي مورست في هذه العملية¡ تكون أمريكا قد
أضافت إلى خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل¡ عنصراً لا
يقل أهمية¡ وهو خلوّ العراق من صدام حسين نفسه¡ وبذلك
تكون قد حذفت ما تبقى من أسباب لمواصلة احتلال العراق¡
والحيلولة دون إفراز حكومة تقرّر مصير البلاد¡ وتخرج من
معطف الوصاية¡ سواء كان هذا المعطف لجنرال متقاعد¡ أو
لحاكم مدني أدواته كلها عسكرية من الخوذة حتى البسطار.
وقد تكون الكتابة الآن¡ عن هذا الصيد الثمين الذي عبّر
عنه “بريمر” في أول مؤتمر صحافي للإعلان عن نجاح العملية
مشوبة بالكثير من الالتباسات¡ لأن الناس لا يزالون رغم
كل ما جرى لهم¡ ومن حولهم يفكرون بقلوبهم¡ والتفكير
الانفعالي إضافة إلى قصوره واقتصاره على بعد واحد¡ لا
يعمِّر طويلاً¡ ويكفي لظهور قرينة واحدة مضادة أن تفسد
النتائج التي تم الارتكان إليها!
والأيام المقبلة حُبلى بما يجهل الأمريكيون¡ فإذا كانت
المقاومة العراقية ذات نسب صدّامي¡ فإنها ستخفت¡ وقد
تتلاشى بغروب مصدرها ومموّلها ومرجعيتها¡ وإذا كانت ذات
نسب عراقي وطني على اختلاف الأيديولوجيات فإنها ستتواصل¡
وقد تتصاعد وتيرتها بحكم الخبرة¡ وبسبب استمرار الاحتلال
الذي هو سببها الأول والأخير!
ما لم يفكر فيه الأمريكيون في ذروة الانتشاء بالنصر¡ هو
أن القبض على صدام حسين سيتيح لأطراف عراقية¡ لزمت
الحياد أو تحفظت على المقاومة خشية من تجييرها لمصلحة
الرئيس السابق¡ أن تعيد النظر في موقفها¡ فهي الآن في
حلٍّ من هذا الخوف¡ أو الاحتراز من الالتباس¡ والتجيير.
وبعيداً عن الأجواء الإعلامية المتوترة والأسلوب
الدراماتيكي الذي قدّم من خلاله صدام حسين وهو يسلم فمه
ولحيته لطبيب أمريكي¡ فإن إلقاء القبض عليه لا يشكّل
أكثر من انتصار معنوي محض للولايات المتحدة¡ فالرجل الذي
قدّمه الاحتلال معزولاً في جُحر بحجم زنزانة¡ ولا يتيح
لمن يتمطّى فيه أن يتثاءب أو يمد يده إلى سلاحه¡ لن يزيد
أو ينقص من منسوب مقاومة لا تتعلق به عضوياً¡ لكن
الإعلام الأمريكي لديه من القدرة المجهرية ما يجعله
يحوِّل الحبة إلى قبّة إذا استدعت المناسبة¡ وأن يفعل
العكس في مناسبة مضادة!
لقد أعلنت أمريكا الحرب على العراق لسببين¡ أولهما
حيازته لأسلحة دمار شامل¡ وثانيهما لأن من يتزعمه
ديكتاتور يشكّل خطراً على السلام في العالم. وإذا كانت
لجان التفتيش عن تلك الأسلحة قد عادت خالية الوفاض¡ وإذا
كان القبض على صدام قد أنجز بهذا اليُسر¡ فإن السببين قد
بطل مفعولهما¡ اللهم إلا إذا ابتكرت واشنطن سبباً ثالثاً
وبأثر رجعي لمواصلة المكوث في العراق!
نعرف أن حدثاً بهذا الحجم أو على الأقل بالحجم الذي
يرسمه الإعلام يقدم وليمة فضائية وصحافية بالغة الدسم¡
وأن التعامل مع هذه الوليمة يجب أن يكون بالحد الأقصى¡
لصعوبة تكرارها. لكن مصائر الشعوب¡ والتعقيد الذي أصبح
عصياً على فهم من حوّلهم التاريخ إلى فئران تجارب
ومختبرات سياسية ليسا بهذا التبسيط¡ والأرجح أن
الاستخفاف الذي يتعامل به العرب مع ما يحدث لهم الآن¡ هو
النذير وليس البشارة بمستقبلٍ غير سار.