للنعل شأن كبير¡ وإن كان في الظاهر حقيراً.. فوظيفته من أهم الوظائف الخادمة للجسد¡ فهو يحمي القدم¡ ويقيها شر الهوام¡ والأشواك¡ وأضراس الحجارة¡ إلى غير ذلك.. وكنت كتبت عن النعل كثيراً¡ وإحدى مجموعاتي القصيصية موسومة باسم: "سيرة نعل".
قلت لكم إن شأن النعل كبير وإن كان في ذاته حقيراً لكن ذلك لا يقلل من أهميته.. فهذا صنّاجة العرب: "الأعشى" يخاطب محبوبته التي ازدرته حين رأته حافياً فقال:
إمّا تَرَيّنَا حُفَاة ً لا نِعَالَ لَنَا *** إنّا كَذَلِكَ مَا نَحْفَى وَنَنْتَعِلُ
وهذا الشاعر الفارس الصعلوك الشنفرى يصف رقة حاله وحفاه مع صبره وقوة بأسه بقوله:
فإمّا تَرَيّنِي كابْنَـةِ الرَّمْـلِ ضَاحِيَـاً *** على رِقَّـةٍ أحْفَـى ولا أَتَنَعَّـلُ
فإنّي لَمَولَى الصَّبْـرِ أجتـابُ بَـزَّهُ *** على مِثْلِ قَلْبِ السِّمْعِ والحَزْمَ أفْعَلُ
أي أنني إذا كنت هزيلاً¡ نحيلاً¡ رقيقاً رقة تلك "الدويبة" التي تغطس نفسها في الرمل¡ فإني لصبور جداً بل إنني لأختار أعظم وأجود أنواع الصبر¡ كما يختار الإنسان أجود أنواع البزّ "القماش" ولي قلب مثل قلب الذئب وإني لفعّال للخير.
وهكذا نرى¡ أن الحفى¡ والمشي بلا نعل يدل على العوز وعدم الرفاهية¡ وأن الانتعال شيء من كمال قيافة المرء. فهذا النعل ضرورة من ضرورات الحياة رغم حقارته... ولعل من أشد ما أثارته حقارة النعل قصة الفارس الحارث بن عباد في حرب البسوس الشهيرة.. فقد أرسل الحارث ابن أخيه وقيل ابنه بُجير كسفير صلح إلى المهلهل أخي كليب ولكن المهلهل قتله وقال: بُؤْ بشِسْع نعل كُليب.. فلما وصل نبأ مقتل بجير إلى الحارث قال نعم القتيل يصلح بين العشيرتين¡ ظناً منه أن قتل بجير سوف يوقف الحرب بين الطرفين¡ لكن حين بلغه قول المهلهل: بُؤْ بشِسْع نعل كُليب¡ والشسع هو جلدة النعل التي فوق القدم غضب عضباً شديد وثارت نخوته ودخل الحرب¡ وأعلنها بقصيدته الشهيرة:
قَرِّبَا مَرْبِطَ النَّعَامَةِ مِنِّي *** إِنَّ قَتْلَ الغُلامِ بِالشِّسْعِ غْالِ
والنعامة هي فرسه..
فهذا النعل الحقير أثار معركة ظلت أربعين عاماً¡ وراح ضحيتها عشرات من صناديد الرجال.
وهذا شاعر أراد أن يهجو خصمه "هارون" ويدعو عليه بالثبور وعظائم الأمور فلم يجد شيئاً أعظم من أن يدعو عليه بالحفى وعدم الانتعال فقال:
ألا ليت هارون يسافر حافياً *** وليس على هارون خفّ ولا نعل
ومن طرائف قصص وحكايات النعال قصة نعل أبي القاسم والتي سبق أن كتب عنها الزميل المبدع الاستاذ عبدالله الجعيثن في هذه الجريدة.
وكان الخليفة سيدنا عمر رضي الله عنه يقيم الحدّ على شارب الخمر بضربه بالنعال ليس إيذاء لجسده بل قمعاً لكرامته ولإهانته النفسية... وهكذا ترون ما لهذا النعل الخسيس الحقير من شأن في خدمة القدم... والبعض يطلق عليه "المداس" لأنه يداس به كل شيء في الطريق ولذا فإن باطنه غالباً ما يكون ملوثاً وربما منتناً عفناً بسبب عشوائية ما يطأ¡ ولأن الناس يقتلون به الخشاش والحشرات¡ كالعقارب والخنافس وغيرها من هوام الارض.
وقد تطورت صناعة النعال في عصرنا الحديث تطوراً مذهلاً وتعددت واختلفت أنواعها وأصنافها¡ ومصادر صناعتها¡ وغلت أثمان بعضها بشكل لا يصدق فربما بلغت قيمة النعل فرساً نبيلاً¡ أو ناقة عشراء.. ولعل أهم وأخطر الأحذية والنعال شأناً في عهدنا الراهن هي الأحذية أميركية الصنع.




إضغط هنا لقراءة المزيد...