لا تخفى على المُلاحظ ظاهرة قدرة إنسان هذه الجزيرة العربية في فن الاستدارة حول النظام¡ حتى لو جاء ذاك النظام عبر تشريع فقهي درج عليه السلف. أو جاء لمصلحة جماعية وليست فردية.
ومنذ أن تخلت المنطقة عن عمليات الكر والفر والإغارة بسبب استيعاب أهلها لمزايا الأمن والاستقرار¡ تفتّقت الأذهان عن وسائل عصرية من أجل الاستدارة حول التعليمات واللوائح والأنظمة والأعراف بطريقة تلقائية مكشوفة كادت أن تصبح رمزا من رموز تعاملنا اليومي¡ قاعدة وليست استثناء¡ معيارا جاهزا لقضاء حاجة وتحقيق هدف شخصي لا صلة للوطن به.
ولو أردنا التحقق من قولي هذا لوجدناه في أرشيف الوزارات دون استثناء. وأذكر كان أي وزير أو وكيل يُزود المقربين في إدارته بخطاب جاهز ومطبوع على (ال .. ستنسل) بفراغات يملؤونها باسم المستفيد¡ إلى وزير المواصلات حين كانت الوزارة مسؤولة عن خدمة الهاتف.
تقول الديباجة: نظرا لحاجتنا إلى (.......) في غير أوقات الدوام الرسمي¡ فنأمل تأسيس هاتف رسمي في منزله. على حساب هذه الوزارة. واتضح أن المستفيد لا يسكن المنزل¡ وإنما تشغل المنزل شركة أو مؤسسة¡ تكرّم عليها المالك بإدخال هاتف مدفوع التكاليف والمكالمات¡ عمل المالك هذا من اجل الإبقاء على عقد الإيجار مع الشركة.
بهذه الطريقة وغيرها يبصق القانون في وجه صانعيه ويَطّرِح قتيلا. والباحثون عن الوثائق سيجدون هذا النوع من "المِنَح " في الأرشيف¡ وهواة جمع الوثائق القديمة سيقرؤون مثل ذاك التخلّف بالأبيض والأسود¡ وربما اعتبروا الوثيقة تحفة نادرة.
وقال رجل كان يعمل في وزارة المواصلات إنه مرّت فترة كانت معظم الهواتف في البلد على حساب جهة أو أخرى¡ عدا مجموعة من الدكاكين في الديرة¡ غرب وشمالي الصفاة¡ وهي لمن لم يجد تبعية لأحد رسمي.
والمقتفي لصحف التاريخ سيجد أن عملية الاستدارة على اللوائح والأنظمة في الوطن العربي عامة هي شيء طارىء في حياة التعامل أو أنها جزء من تقلبات الزمن واستيرادها من أقوام أخرى كانت تدير البلاد. وكان المعلوم عند أهل الشرق عامة أن أكبر شيء يُدار بإتقان محكم هو المرفق العام. وأن أي مرفق – يدخل في ذلك الأوقاف – لا بد وأن يُدرّ دخلا معينا ليمنعهُ من الاندثار. نتج عن ذلك روائع الفن الإسلامي والعربي¡ وطراز العمارات وغِنى زخارفها ونقوشها, وكل ذاك كان بسبب ما تعطيه من دخل دوريّ يجعل المرفق أيا كان نوعه قناة من قنوات الدخل القومي تُستثمر دخوله لتعميره وديمومته واستمرار عطائه. وفي غير ذلك سيكون المرفق عاجزا عن تغطية الحاجات¡ وطالبا للدعم والمساعدة وضعيفا في أدائه¡ لقلة الموارد وفقدان الضبط المحاسبي وسوء استخدام الموارد.
وعندما حس المسؤولون في كل دولة باحتمال تسرّب وتسيّب مصادر دخل كالهاتف مثلا¡ أصدروا لوائح تمنع تركيب الخدمة في المنازل على حساب الدولة¡ فازداد دخل المرفق (أي مرفق) وتمكن من التوسع وتوصيل الخدمة إلى طالبها بغض النظر عن من هو وأين يعمل. ودخل الحاسوب ليمنع قدرة المولعين بإلحاق الضرر بالوطن من أن يجنوا شيئا من ذكائهم بالدوران على النظام.




إضغط هنا لقراءة المزيد...