بعد يومين سيعقد المؤتمر العالمي الأول لعمارة المساجد في رحاب جامعة الإمام عبدالرحمن الفيصل (الدمام) وبمشاركة ودعم من جائزة عبداللطيف الفوزان لعمارة المساجد. انعقاد هذا المؤتمر له رسالة واضحة وهي أن عمارة المسجد تعاني وأننا بحاجة إلى عمل إنقاذي يقدم المسجد كمبنى حضري ديني يواكب العصر ويتعامل مع تقنياته¡ لكن يبدو أننا لا نعرف كيف نقوم بهذا العمل لأننا حبيسو تراكم تاريخي من الصور والتقاليد تشكلت في أذهاننا لم نستطع الخروج عنها وفي كل مرة تسيطر على أذهاننا لنستعيد عمارة المسجد السابقة بكل مشاكلها. أتمنى أن يساهم المؤتمر في خروجنا من هذا الصندوق الذي يجعلنا نكرر أخطاءنا دون أن نعي فعلا أننا نجتر هذا الأخطاء.
المسجد في حد ذاته يعبر عن هوية المدينة بصرف النظر عن شكل المسجد نفسه¡ أي أن وظيفة المسجد يجب أن تتحرر من شكله العام وبالتالي هذا سيجعلنا نتخلص من الصورة النمطية المتشكلة في أذهاننا ويمكن أن نخرج من الصندوق الذي حبسنا فيه أنفسنا تاريخياً.
من الواضح أننا لا نملك الجرأة الكافية للتعامل مع عمارة المسجد بأسلوب مختلف على عكس المصمم "الغربي" الذي صار يقدم عمارة جديدة ومختلفة للمسجد تخالف كل توقعاتنا وأحيانا تصدمنا. في الحقيقة إن تقبل هذه الصورة الجديدة التي يحاول المعماري الغربي أن يقدمها للمسجد لم يتم تقبلها بسهولة بل إنها حتى الآن هي مثار شك وخلاف لكنها في الحقيقة تعري حقيقة أننا نحمل ذهنية جامدة غير إبداعية تسيطر عليها التقاليد. ويبدو لي أن المسألة المهمة التي نهملها بشدة في تعليمنا المعماري هي كيفية تحرير ذهنية معماري المستقبل من هذه القيود فالإبداع لا يمكن أن يتعايش مع الشروط المسبقة. هذا ينطبق على كافة التخصصات وليس العمارة لكننا نتحدث هنا عن المسجد بكل رمزيته وتأثيره في مخيلتنا.
بالطبع نتمنى أن يساهم المؤتمر في صنع هذه الذهنية المنطلقة المتحررة من التقاليد التي تحبس الإبداع و"تقفصه"¡ ولكن هل فعلا سيحقق ذلك لأننا تعودنا على التركيز على الحدث وليس تأثير الحدث والتغيير الذي سيحدثه وأنا هنا لا أتحدث عن مؤتمر المساجد فقط بل عن كل المؤتمرات واللقاءات التي يقال عنها علمية. بالنسبة لي الحدث الذي لا يصنع تغييرا حقيقيا ويبني ثقافة عامية ومهنية جديدة ليس له قيمة. المؤتمر مرتبط بجائزة الفوزان لعمارة المساجد وهي جائزة تهدف إلى تحقيق تحول فكري في عمارة المسجد (Paradigm Shift in Mosque's Architecture) وهذا التحول لا يمكن أن يتحقق بالتمني بل بالعمل وفق رؤية تخرج عن الصندوق وتتجاوز واقع التفكير الحالي الذي يتعامل مع عمارة المسجد ويؤطرها داخل صورة نمطية متكررة.
قبل عدة أيام كنت في زيارة لمكتب معماري دنماركي في مدينة الرياض وهذا المكتب له سنوات طويلة يعمل في مدينة الرياض وقدم لنا عرضا عن فلسفته في التصميم ولفت انتباهي تصميم لمسجد في "كوبن هاجن" استخدم فيه أنصاف القبب كعنصر جمالي/إنشائي لكنه خرج بتصميم يتجاوز الصورة الذهنية للمساجد التاريخية التي نعرفها. المسجد يبدو تاريخيا لكنه يخاطب المستقبل والتفاصيل مدهشة خارج الأُطر التي نعرفها. الجرأة واضحة فهذا المعماري بكل تأكيد خارج الصندوق ويتعامل مع المسجد بحرية كاملة فهو يعيد تفسير الشكل التاريخي براحة وحرية تامة لا يملكها المعماري العربي. في اعتقادي يجب أن نتنبه لهذه المشكلة التي قيدتنا وجعلتنا لا نرى ما نملك من مخزون حضاري "ولاّد" وصانع للابداع.
ولكن هل المشكلة تكمن في المصمم والمعماري فقط وهل ترتبط بالكيفية التي نعلم بها معماريينا¡ أم أن الحالة هي ثقافة مجتمعية عامة تقيدنا وتجعلنا في حلقة مفرغة من التكرار الممل. قبل عدة سنوات كنت ضمن لجنة تحكيم المسجد الكبير في مدينة الجزائر وكانت أغلب المشاريع المتقدمة تستعيد الشكل التقليدي الشمال أفريقي للمسجد وبأسلوب يصل لحد الاستنساخ باستثناء عدد قليل من المقترحات التي حاولت أن تتجاوز هذه النمطية وقد ركزت شخصيا على هذه الاستثناءات واعتبرتها منذ البداية هي المشاريع المؤهلة للفوز وفعلا تحدثت مع الزملاء واستطعنا أن نكون رأيا موحدا واتفقنا على ترشيح ثلاثة مقترحات للفوز جميعها تخاطب روح العصر بأساليب مختلفة لكننا واجهنا مقاومة شديدة من إدارة المسابقة ومن المسؤولين فقد رسموا صورة محددة للمسجد لا يريدون الخروج عنها ونحن كنّا نقول إن المسجد يجب أن يعبر عن أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان وهذا يجعل عمارته خارج قاعدة السكون. لقد انتصرنا في آخر الأمر لكن لا أعلم ماذا جرى بعد ذلك.
أعتقد أن العمارة مرتبطة بالفضول المعرفي فالإبداع بدايته نزعة للتجريب والاكتشاف واختبار المختلف¡ والعمارة ما لم تقدم المختلف فلا يمكن أن تكون ضمن دائرة الإبداع. لقد كنت أفكر في ما يمكن أن يقدمه المؤتمر ليساهم في الإبداع في تصميم المسجد¡ ولا أريد أن أحمل هذا الحدث فوق ما يحتمل¡ لكن على الأقل يجب أن يكون السؤال الكبير الذي يبحث فيه هو نفس سؤال الجائزة التي تأسست من أجل جيل مبدع من المعماريين الذين يتعاملون مع عمارة المساجد وهذا أقل ما يقدمه المؤتمر خصوصا وأنه يعقد بشراكة مع كلية عريقة هي أول كلية عمارة في المملكة.
بالنسبة لي المسجد في حد ذاته يعبر عن هوية المدينة بصرف النظر عن شكل المسجد نفسه¡ أي أن وظيفة المسجد يجب أن تتحرر من شكله العام وبالتالي هذا سيجعلنا نتخلص من الصورة النمطية المتشكلة في أذهاننا ويمكن أن نخرج من الصندوق الذي حبسنا فيه أنفسنا تاريخيا. عمارة المسجد هي عمارة كل العصور ويجب أن يعبر عن الزمن الذي بني فيه لكنه كمبنى يحمل معاني رمزية عميقة تجعله عنصرا ثابتا ومحددا للهوية خارج صورته الخارجية. ومع ذلك يجب أن أنوّه هنا أن عمارة المسجد لا تتقلص فقط في شكله بل هناك العديد من القضايا التقنية والجمالية الأخرى التي لا أعتقد أن المؤتمر سيغفل عنها.




إضغط هنا لقراءة المزيد...