لدي صديق يعيش في منزل ريفي جميل بالقرب من بحيرة "ماجوره" الساحرة على أطراف مدينة ميلان الإيطالية. قمت بزيارته العام الماضي ورأيت نمط الحياة التي يعيشها بين أحضان الطبيعة الفاتنة والأكل اللذيذ والهواء النقي.. يعمل في شركة صغيرة¡ ومنزل والديه على بعد عشر دقائق يقطعها بدراجته الهوائية. قلت له أنت تعيش تقريباً في الجنة.. أجاب: هل تصدق لو قلت لك بأنني غير سعيد على الإطلاق¿ أخذت أعدد عليه متع الحياة التي يرفل فيها¡ فقال بمرارة: لكنني أشعر بوحدة قاتلة.
بدا لي هذا المبرر للتعاسة منطقياً جداً¡ وإن كنت لم أجرب هذا الشعور الذي يحكي عنه¡ لكنني أعرف يقيناً الوحدة والعزلة والاكتئاب والقلق آخذة في التمدد مع المدنية ونمط الحياة المادية التي نعيشها.. تمشي معها يداً بيد.. حتى أصبح الإنسان يلجأ للكلاب والقطط كرفقاء حياة يخففون عنه وحدته.
السعادة التي نعتقد أن المجتمعات المتقدمة تعيشها ليست بالضرورة كما نتصورها. وفي المقابل ليست التعاسة في الفقر والحرمان دائماً¡ لنأخذ الصور ونتأمل ملامح الناس حول العالم¡ في أمريكا¡ مثلاً¡ عندما يهم الشخص بالتقاط صورة لأحد ما يحرضه على الابتسام¡ يقول له "cheese" لأن هذه الكلمة تجعل فم قائلها يبدو مبتسماً.
في المقابل¡ حين تتأمل صور الأطفال الأفارقة في المناطق الفقيرة تجدها في الغالب تشع بالحياة والسعادة.. ابتساماتهم الناصعة الصادقة تشي بنمط الحياة التي يعيشونها¡ أتذكر جيداً عندما كنت في كينيا وزرت قبائل الماساي¡ لم تكن الشفقة عليهم هي انطباعي الأول¡ بل كان إعجابي بنمط الحياة البسيط الذي يعيشونه.. يستيقظون سوية¡ يأكلون في إناء واحد¡ يبكون ويضحكون معاً¡ يتشاركون الحياة حرفياً ولا يفترقون إلا بالنوم¡ وربما يلتقون في أحلامهم.
هذا النوع الفريد من الحياة الجماعية الثرية بالمشاركة يطلقون عليه مصطلح "أوبونتو" ويعني أن حياة الإنسان لا تكون كاملة إلا بالآخرين¡ وأن أي نقص في إنسانية شخص هو نقص في الجماعة¡ ولا يمكن أن تكتمل حياة إنسان دون مشاركتها مع الآخرين¡ لذلك يعمل الجميع لتكامل هذه الحياة عبر عيشها سوية.
في المقابل¡ غياب هذه الروح من المجتمعات الحديثة خلق الوحدة والانعزال والشعور بالتعاسة¡ والمؤسف أنه عندما يعتاد الإنسان على وحدته¡ يصعب عليه تقبل الحياة الاجتماعية وينكفئ على نفسه أكثر.. تلك الروح الأفريقية يجب أن تغرس منذ الصغر¡ علينا أن نسحب من الأطفال أجهزتهم اللوحية ونشجعهم على التواصل الإنساني مع الأطفال الآخرين.. يجب أيضاً ألا نفرط في أي رابطة اجتماعية¡ مثل الاجتماع العائلي الأسبوعي¡ اللقاء الدوري مع الأصدقاء وغيرها.. أما النصيحة الأهم فهي أن تتجنب قدر الإمكان العيش في العواصم والمدن الكبيرةº لأن هذه الأماكن تُميت الإنسان في داخلك.
إضغط هنا لقراءة المزيد...