لم يدع على قريش بالذل والهلاك وانقطاع النسل وجمود الدماء في العروقº فالحياة في نظره صراع بين الحق والباطل مستمر¡ ولو أُبيد الباطل وأهله في مرحلة فسيظهرون تارة أخرى¡ فغاية الحق وأهله أن يُنصروا وتكونوا لهم الغلبة في مرحلة تأريخية عابرة¡ تُصبح شاهداً على مَنْ بعدهم وهدى لأجيالهم..
في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام حوادث غيّبتها التصورات المتوارثة¡ وحجبتها الأفهام الجاهزة¡ فكل قراءة مهما كانت لنص أو إنسان أو أمة فهي ترتبط بأهلها ارتباطا وثيقا من حيث نقصهم البشري¡ وحالتهم الثقافية¡ وما يعيشونه من واقع اجتماعي وغير اجتماعي¡ وهذا ما يدعو الإنسان دوما إلى المراجعة¡ وقراءة الأمور من جديد¡ ولو أنّ كل ما نُقل عن الماضين¡ وعُزي إليهم¡ تُرك وطُلب من الإنسان والناس أن يُضيفوا إليه غيره¡ ويدعوا نقده والتأمل فيهº لما استطاع أحد أن يُجدد¡ أو يبتكر أو يتساءل¡ فالتجديد والابتكار والتساؤل من دوافعه ودواعيه الأساسية عدم الرضا عن الكائن¡ والشك فيه¡ والارتياب منه¡ والدواعي إلى التفكير من خلال هذا المنطق كثيرة متوافرة¡ ومنها أنّ ثمّ أمورا منسية¡ وقضايا مطوية¡ لو جرى النظر إليها¡ وقراءة الأحداث النبوية من خلالهاº لكانت عونا لنا في أمور كثيرة¡ منها مراجعة الصورة الجاهزة¡ ومساءلتها¡ والوقوف بالنقد تجاهها¡ وتبيان أنها كانت تُمثّل إنسانها ومستخرجها¡ ولم تكن ممثلة لسيرته عليه الصلاة والسلام.
من يتحدّث عن الدعاء على المخالفين دينا ومذهباº يقوده ذلك إلى التفكير في قضيتينº الأولى أن تشريع الدعاء¡ والنهوض به¡ يدعو البشر كلهم إلى ركوب هذه السفينةº فيدعو أهل كل دين على من يخالفونهم¡ ويبتهل إلى الله المختلفون في فهم الدين وتصوره في كل أمة داعين على إخوانهم الذين يخالفونهم ويميلون إلى غير مذهبهم. وَمِمَّا يجدر بأهل الأديان¡ وأخص منهم المسلمين¡ أن يلتفتوا إليه أن الحياة الدنيا هذه الأيام تدعو إلى الوحدة والائتلاف¡ والتقارب والتعاون¡ ويقوم التقدم فيها على هذه الركائز¡ فكيف يرضون أن تكون الدنيا¡ وهي التي يذمونها ويزهدون فيها¡ داعية لهذه المعاني النبيلة¡ والدين يدعو إلى خلافها¿
ونهى الله المسلمين أن يسبوا آلهة غيرهم (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوى بغير علم)¡ وكانت علة النهي أن السب يقود إلى السب¡ والسب ينشر السمعة السيئة¡ والقالة الذميمة¡ ويُزهّد الناس في المذموم¡ ولو كان الحق كله معه¡ وهذا المعنى متحقق في دعاء الناس بعضهم على بعضº لأنهم وسيلة نشر الحق والدعوة إليه¡ وإذا كان المسلمون نُهوا عن ذم آلهة غيرهمº لما يجره السباب والشتيمةº فهم منهيون عن ذم الناس والدعاء عليهم.
والقضية الثانية أن نعيش الماضي¡ ونسكن فيه¡ ونطرح على أنفسنا مثل هذه الأسئلة: لو كنا بدعائنا هذا على المشركين¡ وبطريقة فهمنا للإسلام في هذه القضيةº نعيش في زمن النبي عليه الصلاة والسلام¡ فكم رواية ستُروى عنا في هذا المعنى¿ وكم من الناس سينقل هذا الدعاء من أفواهنا¡ ويُخبر به من بعدنا¿
نحن اليوم نعدّ الدعاء على المشركين ثابتا من ثوابت دعائنا في الجمع والأعياد وقنوت رمضان¡ وهذا معناه أن معظم الناس¡ إن لم يكن جلهم¡ سيحفظ هذا الدعاء¡ وينقله إلى غيره¡ ويعرفه حق المعرفة عن فترتنا هذه وعصرنا هذا¡ ويستطيع كل من عاش في زماننا أن يشهد على هذا¡ وينسبه إلى أهله¡ فيقول: كان من ثوابت دعائهم الدعوة على المشركين بالذل والهوان¡ فلو كان النبي عليه السلام وأهل عصره مثلناº لكان نقل الدعاء على المشركين عنه¡ وهم المعادون له¡ أمرا مجمعا عليه¡ ومتفقا عليه بين النقلة والرواة¡ فما حالنا حين نُفتّش قنوته وخطبه¡ فلا نجد لهذا حضورا¡ ولا له شاهدا¿
ماذا سنصنع إذا وجدنا قنوت النبي عليه الصلاة والسلام المنقول يخلو من دعائه على ألد أعدائه¿ وماذا سنفعل حين نرى خطبه المنقولة في كتب التأريخ والأدب تخلو من ذلك كله¿ هل نقبل أن سيرته مع أعدائه كانت على خلاف سيرتنا مع جيراننا الذين نُقيم معهم المواثيق الدولية¡ ونستعين بهم في بناء بلداننا وتقدّم أجيالنا¿
لا ريب أن خلو قنوته عليه الصلاة والسلام وخلوص خطبه من الدعاء على المشركين الذين آذوه وحاربوه وهيّجوا الناس لحربهº سيجعلنا في موقف حرج وموضع صعب أمام سنته وسيرتهº لأننا لو قدّرنا أنه كان مثلنا¡ وعلى ما نحن عليه الآنº لكنّا وجدنا الدعاء بالذل على المشركين الأعداء ثابتا من ثوابت قنوته¡ وأساسا من أسس خطبه¡ وأمرا مجمعا عليه عند نقلة سيرته¡ فما نحن قائلون لأنفسنا حين نجد القنوت والخطب خالية من هذه النبرة التي تُهيمن على عصرنا¿
قبل أن نُفتشّ قنوته عليه الصلاة والسلام¡ وندرس ألفاظه وعباراتهº يلزمنا التعريج على رمضان وزمان فرضه¡ نحن نعلم جميعا أن رمضان فُرض في السنة الثانية للهجرة¡ وأن المسلمين خاضوا معركة بدر فيه¡ وأن الرسول عليه الصلاة والسلام صام سبعة رمضانات¡ وكان يقنت في معظمها وحده دون المسلمين¡ ومن الغريب¡ كما سنشاهد بعدُ¡ أن الذين نقلوا قنوته لم يذكروا عنه أنه كان يدعو على هؤلاء المشركين الذين يُحاربونه في بدر وأحد¡ ويجمعون له الأعداء من كل حدب في الأحزاب¡ في أضيق الظروف عليه وأعنفها على جماعته يترك الدعاء على الخصوم¡ الذين يجمعون الخصومة والشرك والكفر¡ ولا يجد الرواة شيئا ينسبونه إليه فيهم¡ فما الذي منعه¡ وهم يكيدون له ليلا ونهارا¡ ويتربصون بأصحابه سرا وجهارا¿ وما الذي جعلنا نُطلق ألسنتنا في الدعاء على أمم لا تُعادينا ولا تقف في سبيل دعوتنا¿
ألّف د. الوليد الفريان "القنوت في الوتر"¡ وكان مما ذكره فيه "ألفاظ القنوت في الوتر الواردة في السنة"¡ وأورد أربعة أمثلة على قنوته عليه الصلاة والسلام¡ وكانت بعض ما رُوي وليست كله¡ ولم يكن في هذه الأربعة النماذج دعاء على المشركين الأعداء في زمنه¡ ولولا طول بعض ألفاظها لأتيتكم بها جميعا¡ وكان أولها الدعاء المشهور: "اللهم اهدني فيمن هديت¡ وعافني فيمن عافيت¡ وتولني فيمن توليت¡ وبارك لي فيما أعطيت¡ وقني شر ما قضيت¡ إنك تقضي ولا يقضى عليك¡ إنه لا يذل من واليت¡ تباركت ربنا وتعاليت" (31).
تلك هي سيرته في حياته¡ وتلك هي سنته لأمته من بعده¡ ولعل مما يُؤيد هذا¡ ويكتب له القبول¡ أن يطّلع القارئ على دعاء النبي عليه الصلاة والسلام يوم بدر¡ وهو اليوم العظيم الذي قاتل فيه ألف من قريش ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا من المسلمين¡ كما هي رواية مسلم عن الفاروق¡ ولم يكن دعاؤه لربه في هذه الساعة العصيبة إلا أن قال: "اللهم أنجز لي ما وعدتني¡ اللهم آت ما وعدتني¡ اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض"¡ وفي رواية البخاري أنه قال: "اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك¡ اللهم إن شئتَ لم تُعبد"¡ لم يدع على قريش بالذل والهلاك وانقطاع النسل وجمود الدماء في العروقº فالحياة في نظره صراع بين الحق والباطل مستمر¡ ولو أُبيد الباطل وأهله في مرحلة فسيظهرون تارة أخرى¡ فغاية الحق وأهله أن يُنصروا وتكونوا لهم الغلبة في مرحلة تأريخية عابرة¡ تُصبح شاهدا على مَنْ بعدهم وهدى لأجيالهم¡ يعقبها حقبة تأريخية يعود فيها الباطل من جديد¡ (وتلك الأيام نداولها بين الناس).
إضغط هنا لقراءة المزيد...