من ينظر لعصور السلف الأولين¡ الخلفاء والأمويين والعباسيين¡ يجد أن الناس في الدولة كانت لهم مذاهب مختلفة¡ ومشارب متباينة¡ ولم تُفكّر الدولة أن تمنع اختلافهم¡ وتُحدّ من نظرهم وآفاقهم فيه..
لا يكمل الحديث في ظني عن الدعاء على الآخرين ما لم يتناول الكاتب فيه خطب الرسول صلى عليه وسلم¡ وما لم ينظر في سيرته مع أهل زمانه من غير المسلمين¡ وهم أولئك الذين كانوا معه في المدينة¡ فذان أمران مهمان في تكوين رأي حول الدين نفسه¡ وحول موقفه من الآخرين¡ يُضافان إلى ما تقدم الحديث عنه في المقالات الثلاث المنشورة في هذه الصحيفة السائرة.
جمع أحمد زكي صفوت خطب العرب من المصادر المختلفة¡ فكانت في ثلاثة أجزاء¡ وكان نصيب العصرين الجاهلي وصدر الإسلام الجزء الأول منها¡ وأورد للرسول عليه السلام أربع عشرة خطبة¡ بدأها بخطبته لقومه حين دعاهم إلى الإسلام¡ وختمها بخطبته حين مرض¡ وهي التي قال فيها: "مَنْ كنتُ جلدت له ظهرا¡ فهذا ظهري فليستقد منه¡ ومن كنت شتمت له عرضا¡ فهذا عرضي فليستقد منه¡ ومن أخذت له مالا¡ فهذا مالي فليأخذ منه¡ ولا يخشَ الشحناء من قبليº فإنها ليست من شأني¡ ألا وإن أحبكم إليّ مَن أخذ مني حقا إن كان له...".
من المقطوع به أن خطبه عليه الصلاة والسلام تزيد على هذا العدد اليسير¡ وتتجاوزه كثيرا¡ فما هذه سوى عيّنة قليلة¡ ومجموعة طفيفة. وما دام هذا ما وجده الجامع¡ وحصّله بعد بحث¡ فلي أن أستثمره في القضية التي أكتب عنها¡ وحين قرأت هذه الخطب لم أجد فيها لفظا واحدا يدعو فيه النبي عليه السلام على مخالف له¡ فردا كان أم جماعة¡ ولعل من النافع أن يُعلم أن من الخطب خطبةً كانت له يوم أحد¡ ومع طولها بالنظر إلى غيرها¡ إلا أنها خلت من دعائه على أعدائه¡ وكان لبّها¡ كما هو لبّ سائر خطبه¡ مُوجّها إلى صلاح المسلمين وإصلاحهمº فبهذين تكون لهم النصرة¡ ويحوزون على الغلبة¡ وهو منطق الآية الكريمة (إن الله لا يُغيّر ما بقوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم).
هذا ما كان من شأن خطبه التي كُتب لي أن أطّلع عليها¡ ويبقى بعد ذلك القول في القضية الثانية¡ وهي سيرته مع أهل زمانه¡ من المخالفين له في الدين¡ والمنازعين له فيه¡ ولعل أبرز هؤلاء وأكثرهم عداء وأعظمهم أثرا في تأريخنا إلى هذه اللحظة التي أكتب فيها المقالة هم اليهود¡ فكيف كان حاله معهم¿ وهل في السيرة ما يدل على حسن الجيرة¿ وهل من حسنها وزكائها أن يُدعى على المخالف¡ ويُسأل الله تعالى أن يُذلّه لخلافه في الدين¿ وهل يُعين الدعاء على المخالفين في وحدة المجتمع وأمنه وأمانه¿ وهل يقبل المسلم¡ لو عاش في غير بلاده¡ أن يسمع الدعاء عليه¡ وعلى أهل ملته¡ في أماكن العبادة ودور الصلاة¿
هذه أسئلة¡ وعند القارئ مثلها وأهم منها¡ تدور حول الآثار المحتملة للدعاء على المخالفين¡ وتكشف شيئا من بلاياه المتوقعة¡ وتدفع بصاحبها الوجِل من إجاباتها إلى الريبة في بعض ما رُوي¡ والشك فيه¡ فمَنْ يميل إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو مثلا في قنوته وخطبه على اليهود¡ ويسأل الله أن يُريه فيهم عجائب قدرته لما هم عليه من الضلال والفسوقº فيُتوقّع منه أن يطرح هذه الأسئلة على نفسه¡ ويُجيب عنها¡ ويتحمّل في إجابتها سوء السمعة التي سيلصقه بالنبي عليه الصلاة والسلام ودعوته الرحيمة¡ وينظر بعد ذلك ويُفكر في هذا السؤال لو طُرح عليه: هل كان دعاؤه عليه السلام سببا من أسباب تآمرهم عليه¡ وسعيهم في قتله¡ ومساعدة أعدائه في الأحزاب للنيل منه¿ تلك قضايا يجرّ بعضها بعضا¡ ويُحضر ذكر إحداها الأخرى¡ وعليه أن يجد تفسيرا لهذا الأمر كله يُظهر أولئك اليهود ظلمة خونة¡ وليس لهم من سبب في ظلمهم وعدوانهم.
من يمضي مع دلالة تلك الخطب على قلتها¡ ويأبى أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو على مخالفيه من اليهود لمخالفتهم الدينية فحسبº يرى أعداءه منهم في تلك الحقبة أهل خديعة ومكر¡ وظلم وتعدّ¡ فلم يكن منه عليه الصلاة والسلام ما يدعوهم إلى خيانته¡ والإخلال بعهودهº فقد أحسن جوارهم¡ وبالغ في حفظ حقوقهم¡ وأباحت دعوته¡ مع مخالفتهم له¡ الاندماج فيهم بالزواج من نسائهم¡ ولم يكن يدعو عليهم ولا يبتهل إلى الله تعالى بإذلالهم¡ وكيف يكون ذلك منه عليه السلام وهو الذي استعان ببعضهم على قضاء حوائجه ورهن درعه عنده¿
روى البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "توفي النبي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهوي بثلاثين صاعا من شعير"¡ وهو حديث متفق عليه¡ ومَنْ ينظر فيه¡ ويتأمل معانيه¡ يجد الرسول صلى الله عليه وسلم يتّجر مع اليهود¡ ويرهن عندهم درعه في سداد دينه المؤجل¡ وهي صورة لها ما بعدها¡ فهي دالة على أن المجتمع المسلم كله كان يسير مع اليهود سيرة قدوته معهم¡ فهو يُشرع بفعله كما يُشرع بقوله¡ وما دامت هذه هي حال نبينا وأتباعه مع اليهود في المدينة¡ وما دام النبي عليه السلام مات ودرعه مرهونة عند أحدهم¡ فهل نرى¡ ونحن نقرأ هذا الخبر الثابت في الصحيحين وغيرهما¡ أن قدوتنا كان يدعو على هذا اليهودي الذي ارتهن درعه عنده¡ ويسأل ربه أن يُذلّه¿ وهل نرى أن هذا اليهودي سيقبل بالمتاجرة مع مَنْ يدعو عليه وعلى أهل ملته¿ وهل سيقبل اليهود ذلك¿ وإذا قلنا: إن المسألة مادية¡ وهمّ اليهود المالº فهل سيقبل اليهود أجمعون بفكرة زواج المسلمين من نسائهم وهم يدعون عليهم¡ ويسألون الله أن يُعذّبهم¿ وهل من الممكن الأخذ بآية المائدة في ظل ثقافة تملأ نفوس المسلمين بشر اليهود وخبثهم وضلالهم¿ وهل كان المسلم الذي يسأل عن أخلاق المسلمة وأبويهاº خوفا من عرق دسّاس¡ سيُقبِل على الزواج من كتابية يهودية يسمع من نبيه ومن أتباعه الدعاء عليها وعلى أهل ملتها¿!
لا تستطيع أن تحكم تفكير مجتمع¡ ولا أن تحدّ من اختلافهم¡ ومن ينظر لعصور السلف الأولين¡ الخلفاء والأمويين والعباسيين¡ يجد أن الناس في الدولة كانت لهم مذاهب مختلفة¡ ومشارب متباينة¡ ولم تُفكّر الدولة أن تمنع اختلافهم¡ وتُحدّ من نظرهم وآفاقهم فيه¡ وهذا يُنبئنا أن السلم الكلامي بين المختلفين¡ ما كان اختلافهم¡ هو السبيل للوحدة والأمان¡ وهو الطريق إلى حفظ المجتمع من تدخّل الآخرين فيه¡ فمن أسباب الوحدة ودرء خطر الخارج أن نمتنع عن الدعوة على المخالف¡ ونحذر هذا السبيلº فمن يدعو الله عز وجل على غيره¡ ويستعين به في مقاومتهº يُريد أن يُقصيه ويُنهي أمرهº لكنه حين لم يملك القوة الكافية¡ ذهب إلى دعوة الله تعالى وسؤالهº كما هي حال الإنسان في كل أمر لا يستطيعه بالتدبير¡ ولا يناله بالتخطيط¡ ومَنْ كان هذا شأنَه مع غيرهº فلا غرابة أن يكون في جدرانه نُقوب يدخل منها أعداؤه¡ ويخلصون منها إليه¡ ومَنْ يخاف هذا المآل على مجتمعه¡ ويحذره أن يُصيب ذويهº فعليه أن يخافه على مجتمعات جيرانه الذين أصبح المسلمون جزءا منهم¡ وبعضا من مكونات بلدانهم¡ لو رأت تلك المجتمعات أن تسير سيرته¡ وتقفو أثره.
إضغط هنا لقراءة المزيد...