الإنسان المشغول بالماضي أمجاده وبطولاته مهموم بالماضي في إشكالاته ومشكلاتهº فالماضي لا يأسر العقل بتذكار ما كان من أمجاد¡ وإحصاء ما كان من بطولات¡ ويقف بنا عند هذا الحد¡ بل يصطحب معه ما حدث فيه من مشكلات¡ وما نتأ فيه من إحراجات¡ ويُرغم الإنسان على الانشغال بها¡ وإن كان بعيدا عنها¡ وزمانه لا يحتملها¡ فليس الخوف من الماضي أن يجعل الإنسان شاعرا يمتدح ما كان¡ ويُعيد ذكراه¡ بل الخوف منه أيضا أن يضطره إلى الانشغال بكل ما فيه¡ فيسعى لحلّ ما أُثير حوله¡ ويُنقّب عن كل ما كان فيهº حتى يجد له الحلول¡ ويصل فيه إلى إجابات¡ وهو في حالتيه لا يزداد من عصره إلا بُعدا¡ ولا عن أهله إلا نَأْيا¡ يقوم على الماضي وأهله¡ وينسى عصره ومَنْ فيه¡ يحلّ تحديات الأموات¡ وينشغل بما تركوه¡ ويغيب عن مشكلات الأحياء¡ ويستدبر ما هم فيه من بلاء.
من الخير لنا أن ندع طرح أسئلة على شاكلة: هل انتشر الإسلام بالقوة أو انتشر بالسماحة والرفق¿ ونتجه إلى ثقافتنا الدينية نفسها¡ وإلى مذاهبنا التي ورثناها¡ وكانت صورة من صور فهم الإسلام..
كلنا نقول ما قاله الإمام علي في شعره المنسوب إليه:
إنّ الفتى مَنْ يقول ها أنا ذا
ليسَ الفتى مَنْ يقولُ كان أبي
نستحثّ به قوانا¡ ونشحذ بإنشاده هممنا¡ ونتطلّع أن يكون لنا في المجد صنائع لم تخطر ببال أجدادنا¡ ولم تدر في أخلادهم¡ غير أنّا حين ننظر في ثقافتنا¡ وما يُسيطر عليها¡ نجد الماضي هو الحاضر¡ والحاضر هو الغائب¡ وهذا يُناقض ترديدنا لهذا البيت¡ ويُخالف إقبالنا على الشدو به¡ ويجعلنا نقول بألسنتنا ما ليس في قلوبنا¡ ونستحضر بأفواهنا مالا مكان له في ضمائرنا¡ فمن شروط الإنجازات الباهرة والفتوحات الآسرة أن يغرق الإنسان في عصره¡ وهموم أهله¡ ويقُبل على ما بين يديه¡ ويذر ما كان شاغلا لماضيه وأهله¡ فمن السنن الظاهرة والعوائد اللائحة أنّ إنجازات كل عصر في مشكلاته وتحديات أهله¡ وما من سبيل للتفوق¡ وقول: ها أنا ذا¡ إلا أن يحيا الواحد منا في عصره¡ ويتنفس هواءه¡ ويتربّع على أرضه¡ ويلتحف سماءه.
حين نعود إلى عصرنا¡ ونعيش فيه¡ ونُثير قضاياهº سنجده شاغلا لنا¡ ومالئًا وقتنا¡ ومستغرقا جهودنا¡ ومانعا لنا من أن نستورد قضايا الماضي¡ ونقطع أوقاتنا الثمينة بعلاجها¡ وسنرى أن من الخير لنا أن ندع طرح أسئلة على شاكلة: هل انتشر الإسلام بالقوة أو انتشر بالسماحة والرفق¿ ونتجه إلى ثقافتنا الدينية نفسها¡ وإلى مذاهبنا التي ورثناها¡ وكانت صورة من صور فهم الإسلام¡ ونطرح حولها ذاك السؤال عينه فنقول: هل انتشرت المذاهب بالقوة والقسر أو بالرفق واللين¿ هذا هو سؤالنا الأهم¡ وقضيتنا البُرزى (يجب عند النحويين في أفعل التفضيل¡ المقترن بالألف واللام¡ أن يُطابق موصوفه¡ ولا يجوز عندهم أن نقول: قضيتنا الأبرزº لأن القضية مؤنثة¡ والأبرز مذكر)¡ ومَنْ يطرح علينا السؤال الأول (هل انتشر الإسلام بالقوة¿) نُحيله إلى الإسلام في هذا العصر¡ ونطرح عليه السؤال من جديد: وهل انتشار الإسلام اليوم بفعل القوة¿ فنحن مسؤولون عمّا نعيشه ونُشاهده ولنا دور في الشهادة عليه¡ ومَنْ يسعى إلى إرباكنا بالسؤال عن الماضي¡ وهو لا يعيشه¡ ولا يلمسه¡ ولم يصطل بهº فعلينا أن نُذكّره أن المسلمين في هذا العصر ليسوا مسؤولين عمّا كان في ماضيهم البعيد¡ مما لم يعد له وجود في عصرهم الراهن¡ ومن يصرّ على هذا المعنى فهو مؤمن أن الأبناء يدفعون جريرة الآباء¡ والله تعالى يقول: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)¡ هذا إذا صحّ أن الإسلام انتشر بالقوة¡ وذاع أمره بالشدة¡ وحسبنا في إيقاف انشغالنا بهذا السؤال¡ والوقوف في وجه من يُثيره¡ أن المسلمين الذين على أيديهم نشره من أضعف الناس هذه الأيام¡ وأكثرهم فرقة وشتاتا¡ وما من الحكمة أن يشغل الضعيف نفسه بأسئلة زمانٍ غير زمانه¡ ويُضيع جُلّ وقته فيها¡ وكان حريّا به أن يتجه إلى المذاهب التي حلّت محل الإسلام¡ وأضحت تقف وراء جزء كبير من مأساة المسلمين في عصره¡ ويسأل نفسه عنها وعن دورها: هل انتشرت بالقوة¿ وما دورها في أسْر العقل وتقييد حريته¿ وهل ما يُشاهد من تضييق باب الحرية الفكرية راجع إلى قوة تستند عليها هذه المذاهب في بلاد المسلمين¿
كان يقال لنا: إن الانشغال بما يكون مانع من الاهتمام بما لم يكن¡ ونحن في هذا الزمن نقول: إن الانشغال بما هو كائن مانع من العناية بما كان وانقضى¡ ولم يعد له أثر يُرتجى¡ وحين نبحث في حياتنا المعاصرة والمؤثرات عليهاº نصل إلى أن العناية بمذاهب المسلمين¡ وما روته لنا كتب التراث وظللنا على الإيمان به¡ هو المقدم في سلسلة الواجبات التي علينا الالتفات إليها¡ والنظر فيها¡ والبحث عما تقوم به اليوم من إرغام المسلمين على الإيمان بكل ما فيها¡ وإجبارهم على أن يكونوا من أنصارها أو الساكتين عنها.
المذاهب وما حيك حولها قضية قديمة حديثة¡ لها أثر على المسلمين في الأحقاب الماضية¡ ولها أفعال غير مرضية في الأزمان الحاضرة¡ فرّقتهم في الماضي¡ وجعلتهم أحزابا في الحاضرº فالحرص على دراسة مظاهر القوة في فرضها على المسلمين أجدر¡ والبحث في أثر قوتها¡ الحسية أو المعنوية¡ على إحجام العقل المسلم عن مناقشتها¡ ونكوصه عن نقد كثير من قضاياها أولىº حتى أصبح ما تحمله من مسائل¡ وتشتمل عليه من قضايا¡ قوة ضاربة يحسب لها مَنْ يريد التفكير فيها ألف حساب¡ يخاف الناس وردودهم¡ ويخشى الجمهور ومواقفه¡ وتلك صورة بيّنة من صور القوة التي تستنجد به المذاهب في إلزام الناس بها¡ وكفّهم عن نقدها¡ ومثل هذه القوة هي التي يجدر بالمسلمين أن يُولوها اهتمامهم¡ ويهبوها اجتهادهم¡ ويتفطنوا إلى آثارها¡ وينزعوا عنها ما يودّون نزعه عن صورة الإسلام نفسهº فما داموا يُجادلون في انتشار الإسلام بالقوة¡ ويسعون إلى تكذيب تلك التهمة¡ فأولى بهم أن يتفطنوا إلى مذاهبه¡ ويقرأوا تأريخها¡ ويتأملوا ما كان فيه¡ ويسبروا مظاهر القوة الناعمة وغير الناعمة فيها¡ ويُعالجوا الفرقة التي ما كان لها أن تكون لولا القوة التي تكمن في تلك المذاهب¡ وتختفي في ثناياها¡ ومعها يضطر المسلمون أن يلزموا الصمت تجاهها¡ ويلوذوا بالسكوت عنها.
الانشغال بالسؤال عن القوة في انتشار المذاهب بين المسلمين وعلله سؤال عن الداخل واهتمام به¡ وهو الذي بقي لنا بعد أن كفّ المسلمون عن الجهاد¡**وتحاموا سبيله¡ وهو الذي سيأخذ بنا إلى معالجة كثير من قضايانا الحيوية التي جعلت المسلم مرغما في مجتمعه أن يأخذ بمذهبه وينتمي إليه¡ ويغدو له حارسا¡ وعن رجاله محاميا¡ ويُشارك بعد ذلك في بسط سلطانه بالتهديد المباشر¡ ومدّ مساحته بالإلزام المغلّف بالقوة الناعمة¡ وتلك هي القضية التي أقلقت المسلمين في الماضي¡ وبقيت آثارها ظاهرة عليهم في الحاضر¡ وحسبُ مَنْ يُعنى بها أنه يُداوي جرحا عاما وبليّة مشتركة.




إضغط هنا لقراءة المزيد...