نسمع كثيرا عن القوة العالمية العظمى¡ ولكننا لا نكاد نسمع شيئاً عن "القوة الثقافية العظمى".. في كل عصر توجد دولة عظمى تتفوق على غيرها وتفرض نفوذها على بقية الأمم.. غير أن مقياس العظمة لدينا يرتبط غالبا بالنفوذ السياسي¡ والتمدد العسكري والتفوق الاقتصادي¡ وربما التحول إلى إمبراطورية غازية..
غير أن مظاهر التفوق (المادية) هذه تسبقها عوامل تفوق علمية ثقافية وفكرية لا يفكر فيها الجميع.. يسبقها حراك فكري¡ ونهوض سياسي¡ ورسالة أيدلوجية قوية.. إبدأ معي من الإغريق حين طغت سلطة أثينا على الممالك المجاورة¡ واكتسح الاسكندر الأكبر الإمبراطوريات المنافسة ووصلت جيوشه إلى الهند والصين.. قبلها بجيل واحد فقط كانت أثينا تعيش ازدهارا فكريا غير مسبوق¡ وتعج بفلاسفة ومفكرين مازلنا نتحدث عنهم¡ من بينهم أرسطو المعلم المباشر للإسكندر الأكبر.. ونفس الظاهرة تسري على الإمبراطوريات الرومانية والإسلامية والأسبانية والبريطانية -التالية لها- حيث سبق قوة الدولة (ونفوذها الخارجي) ازدهار علمي وفكري أو رسالة أيدلوجية غير مسبوقة..
وحين تتأمل عصرنا الحالي¡ تكتشف أن هذه الظاهرة تنطبق على أميركا أيضا.. فهي اليوم ليست فقط القوة السياسية والاقتصادية العظمى¡ بل وأيضا القوة الثقافية والعلمية العظمى¡ وهي عوامل تفوق ناعمة لا تشغل حيزا كبيرا في نشرات الأخبار..
فأميركا مثلا (غير أنها صاحبة القوة العسكرية والاقتصادية الأكبر في العالم) هي أيضا أكبر دولة في تأليف الكتب¡ وإنتاج الأفلام¡ ونشر الأبحاث¡ وتوثيق الابتكارات¡ ونيل جوائز نوبل في العلوم والآداب.. هي من بدأ عصر النفط¡ والكهرباء¡ والإنترنت¡ وأول من فجر الذرة وغزا سطح القمر.. تملك 3295 جامعة¡ و7088 مركزا علميا¡ ويستورد منها العالم آلاف الأبحاث والتطبيقات الطبية.. يمكنك أن تكابر ولكن لا يمكنك أن ترفض ركوب البوينغ أو استخدام الانترنت أو استعمال الكهرباء أو اللجوء لآخر العلاجات الطبية لمجرد أن الأميركان اخترعوها (ولن أناقشك حين تبدأ بقولك بأن الله سخرهم لنا)!!
وطالما تبقت 148 كلمة على نهاية المقال¡ دعني أخبرك بموقف حصل لي مع بروفيسور أميركي معارض لسياسة بلاده العسكرية.. كان ذلك خلال مؤتمر طبي في الأرجنتين أثناء الاحتلال الأميركي للعراق حيث جمعتنا طاولة واحدة.. أبدى تذمره من تدخل بلاده العسكري في العراق وأفغانستان (بل وادعى أن أوباما خدع مرشحيه حين وعدهم بإغلاق معتقل غوانتانامو بمجرد دخوله البيت الأبيض).. أخبرته أنني اتفق معه تماما وأضفت قائلا:
وأنا شخصيا لا أعتقد أن أميركا بحاجة لغزو العالم¡ أو نشر قواعدها العسكرية في كل قارة¡ فتأثيرها الثقافي والفني والإعلامي غزا في الأصل كل بيت من بيوت العالم.. أفلام هوليوود¡ وأغاني البوب¡ ومطاعم ماكدونالدز¡ وبناطيل الجينز¡ والشركات العابرة للقارات¡ والإقبال على تعلم لغتها الإنجليزية¡ مجرد نماذج لغزو ثقافي (لم يكلف أميركا شيئا) مقارنة بالغزو العسكري¡ وخسارة ترليونات الدولارات في حروبها حول العالم..
فتح الرجل فمه (وكأنه يتنبه لأول مرة لهذه المفارقة) فصافحني عبر الطاولة قائلا: هذا ما نريده لأميركا..
قلت: هذا ما تريده كل أمة لنفسها..




إضغط هنا لقراءة المزيد...