التماهي بين السياسي والفكري يجعل المشهد أكثر وضوحا وتعقيدا في ذات الوقت¡ ويكشف الغطاء عن سوءة بعض المفكرين الذين أشغلوا العالم بمثلهم وقيمهم التي لا تختلف البتة عن العملاء الذين يؤجرون أقلامهم في تكييف الفكر¡ والتلبيس والتدليس لخدمة أهداف سياسية يرونها تخدم الهوية الغربية عموما
نُشر مؤخرا في العاصمة الفرنسية كتاب بعنوان: دكتور سعود ومستر جهاد¡ "للعلامة" بيار كونيسا. الكتاب بحق يتحدث عن دولة لا أعرفها¡ ولم أسمع بها بتلك التفاصيل التي نثرها قدس الله سره. كونيسا سبق أن أصدر مؤلفا بعنوان "صناعة العدو أو القتل بلا ضمير" وضع فيه النظريات والمعايير لصناعة عدو يجوز للغرب تدميره بدم بارد¡ وفي المصنف الحالي يطبق المعايير على الحالة السعودية ليصنع منها عدوا مثاليا.
السعودية¡ في خيال الكاتب المريض¡ أنتجت "صناعة إيديولوجية" مزجت بين القوة الناعمة على الطريقة الأميركية والمهارة الدعائية للنظام الشيوعي. وبأسلوب روائي مثير يشرح ذلك بقوله إن السعودية "تزاوج بين الدبلوماسية الدينية¡ المدعومة وغير المسيطر عليها بشكل كامل¡ وبين النشاط العام والمؤسسات الخاصة¡ وتحدد مَن يجب أن يُساعَد ومن يجب أن يعاقَب ومن يجب أن يُقصى. وبسبب تنوع النظام السعودي وتعقيده¡ يمكن مقارنته بالنظام الأميركي من حيث تظافر الجهود الشخصية من أفراد الأسرة الحاكمة¡ والمنظمات الدولية "كمنظمة التعاون الإسلامي"¡ وتمويل وإنشاء مدارس دينية مجانية للأطفال¡ وتوظيف أئمة في كل أنحاء العالم¡ وإنشاء مؤسسات خاصة غنية للغاية¡ ومنظمات غير حكومية "إنسانية"¡ وتوفير منح لجذب الطلاب الأجانب إلى جامعات المملكة الإسلامية¡ وتستثمر في وسائل إعلام عالمية". أما وجه الشبه بين السعودية والاتحاد السوفييتي فيتمثل في "الشمولية الراسخة" والمفوضين السياسيين¡ أي الدعاة ذوي الأصول المتنوعة والمؤهَلين في الجامعات الإسلامية¡ لا سيما جامعة المدينة المنورة".
وعندما تقرأ الكتاب وأنت خلو من المعلومات المناسبة سيعلق بذهنك أن قناة فوكس نيوز الأميركية التي يشارك فيها مستثمرون سعوديون هي جزء من وسائل الدعوة إلى الله¡ وأن منظمة التعاون الإسلامي هي مؤسسة تبشيرية "وهابية"¡ وأن قنوات مجموعة إم بي سي لا تخرج على رأي وزارة الشؤون الإسلامية¡ وأن 30 مليون شخص في السعودية من مواطنين ومقيمين هم 30 مليون "وهابي".
عشرات الكتب التي تسطّر بحبر الكراهية¡ ونشاطات لا تتوقف هدفها النهائي تخويف الرأي العام العالمي من دهياء ظلامية اسمها "الوهابية". فلماذا¿ في ندوة خاصة لعدد من المراكز العلمية الغربية نوقشت فرضية: ماذا لو أعاد الرئيس الأميركي ترامب التحالف مع العربية السعودية على حساب إيران¿ وخلصوا إلى سؤال مهم: ما الهدف الإيديولوجي الذي يمكن استخدامه بديلا للوهابية بحيث يكون محور البحوث والنشاطات الفكرية للمرحلة القادمة¿ بمعنى أن علاقة سعودية - أميركية قوية تخفف حدة خطاب الكراهية ضد السعودية في أوروبا.
التماهي بين السياسي والفكري يجعل المشهد أكثر وضوحا وتعقيدا في ذات الوقت¡ ويكشف الغطاء عن سوءة بعض المفكرين الذين أشغلوا العالم بمثلهم وقيمهم التي لا تختلف البتة عن العملاء الذين يؤجرون أقلامهم في تكييف الفكر¡ والتلبيس والتدليس لخدمة أهداف سياسية يرونها تخدم الهوية الغربية عموما. التناقضات التي تغص بها صفحات الكتاب تحط من قيمته العلمية¡ ولكن ما يؤلم حقا تلك الاقتباسات التي يحيلها إلى سعوديين لديهم وجهة نظر ومواقف شخصية يسقطونها على المناهج الدراسية السعودية وعلى التيارات الفكرية¡ حيث يلجأون -أحيانا - إلى تصفية حساباتهم بشكل غير علمي ولا موضوعي من أجل الكيد للطرف المقابل¡ أو قول ما يسهل قوله في غير موضعه خشية من البوح بما يصعب البوح به في محله. الآخر لا يأخذ في حسبانه تعقيدات المشهد السعودي وما فيه من تنوع¡ فيحمل كل رأي ضد السلفية أو الوهابية على محمل الجد على اعتبار أنه تمرد من داخل المؤسسة.
دكتور سعود ومستر جهاد عرَضٌ لداء متمكن في نفوس بعض المفكرين الغربيين الرخيصين¡ أما أولئك الذين يكتبون ولديهم قناعات قابلة للنقاش فأولئك يحترمون مهما بلغت حدة الاختلاف.




إضغط هنا لقراءة المزيد...