يرتكز في ذاكرة البشرية¡ من التراث الثقافي المعنوي والمادي¡ ما يتبقى نافعاً في خلق هويتها أو قضاء مصلحتها.
باعتبار أن عاملي التاريخ والجغرافيا يتعاضدان في ذلك الارتكاز بالدور البشري الأساسي كما أنهما يتحايلان¡ وهما يؤثران دون أدنى وهم¡ في الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
فالجغرافيا تاريخ متجمد¡ والثاني جغرافيا سائلة¡ وهذه من مقولات النافذين في دراسة الحضارات وثقافاتها وشعوبها¡ وحين نقترب من موضوع المقالة حيال بيئات تصدر -أو تطرد كوادرها - وحاضنات ثقافية تستقبل وتنمّي تلك العناصر وقدراتها وتتيح إمكانياتها الفاعلية والتكريس.
وإذا أخذنا في الاعتبار¡ مخرجات العلوم الإنسانية والطبيعية¡ التي تقضي في أن الجماعات البشرية تعيش في ما يناسبها من بيئات لا العكس حسب السمة التطورية الافتراضية¡ فالمهن المستقرة لها أهلها والموسمية لها أهلها أيضا¡ وإن تبدلت فللظروف القاهرة دورها.
إن الجغرافيا يمكن أن تكون عبوراً لجماعات دون سواها فتكون مستقراً -وإن أجبرتها الظروف رحيلاً-¡ فالبديل يحمل صورة عن الأصل¡ أرض الجدود والوعود¡ أي: تغيب الجغرافيا مادياً فتحضر الثقافة معنوياً لتخلق عالم الهوية والوجود¡ وتغدو الهجرة - لا الترحال- توطّن بديل أو ممكن.
ومن النافذين في دراسة الحضارات¡ سواء تاريخها أو جغرافيتها¡ عالم الآثار طه باقر وعالم الجغرافيا جمال حمدان¡ إذ استوعب باقر سمة الاضطراب والحيوية في حضارة وادي الرافدين والاستقرار والانغلاق في حضارة وادي النيل¡ فلكل مزايا وعيوب. كما تنبه حمدان إلى سمتي الاتصال والانقطاع بين الحدود الطبيعية والبشرية من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي.
إذا كانت نتائج علم الحمض النووي حسمت منبع وهجرة السلالات البشرية¡ المكونة الأساسية لما يدعى الشعوب السامية¡ سواء من حوض المتوسط الشرقي (النطوفية) أو من القرن الأفريقي (اليمنية) بالإضافة إلى ما وراء النهرين(الطورانية) أو الشمال الأفريقي (الأمازيغية)¡ فإن المراكز الحضارية (المدن الكبرى) كشفت الدور الإنساني في تجمّع أو توطن البشرية وإنتاج الثقافة بمفهومها الحضاري¡ لا الحدود الدنيا من متطلبات المعيشة¡ فالهجرات تتابعت من منابعها شرقاً وجنوباً أو شمالاَ وشرقاً لتكون المنطقة الحضارية التي نعيش فيها.
وفي القرون الخوالي¡ نرى هجرات عربية نحو الغرب (الأندلس)¡ ونحو الشرق الأقصى (الهند واندونيسيا)¡ وهجرات نجدية نحو الشمال (الزبير)¡ وهجرات شامية نحو الجنوب (مصر) كونت بوجودها تنامياً اجتماعياً واقتصادياً أدعى إلى دور ثقافي يتمثل في خلق المهن واحترافيتها¡ في آخر قرنين على الأقل¡ فصعدت أهمية المهن الخدماتية والترفيهية¡ وتطاولت في التفاضل مهن التعليم والقضاء والإعلام والأدب والفن¡ وهي الملامح العمرانية التي تطبع واجهة المجتمع وتعلو إن علت مقاصده¡ وتهبط إن شانت خوافيه.
التاريخ يحرّك الجغرافيا والأقدار مشيئة السماء.




إضغط هنا لقراءة المزيد...