لم تتقدم دول الغرب والشرق الأقصى لأن أفرادهما ولدوا محبين للعمل¡ محافظين على الوقت¡ كما لم تتأخر دول الشرق لأن أفرادها ولدوا كارهين لإنجاز الأعمال بكفاءة¡ غير محافظين على الوقتº بل إن الإنسان هنا هو الإنسان هناك والفرق يكمن في نوعية البنية الثقافية المجتمعية التي تسير الفرد هنا وهناك.
شخصية الإنسان لها جانبان¡ جانب مكون من الصفات البيولوجية¡ وجانب مكون من الصفات الاجتماعية التي يسكب المجتمع أفراده في قوالبهاº والتفرقة بين المجتمعات¡ من حيث تقدمها وتأخرها¡ إنما تكون عن طريق نوعية القيم التي تغرسها المجتمعات في نفوس أفرادها.
من هنا فإن شخصية الإنسان¡ التي يتعامل بواسطتها مع المجتمعات¡ وبها يقيم الأشياء والمذاهب والقيم والحضارات¡ إنما هي مزيج من العوامل البيولوجية والاجتماعية¡ إلا أن الأخيرة لها الكلمة الأولى في تكوين تلك الشخصية. فقد يولد الإنسان ولديه نزعة إلى التفوق والإبداع واحترام الغير¡ ولكنه يعيش في مجتمع لا يشجع على تلك القيم¡ فتخبو فيه تلك النزعةº وعلى العكس من ذلك¡ تجد من يولد بقابليات لا تنزع إلى الإبداع¡ ولا إلى إنجاز الأعمال بكفاءة¡ ولكنه يعيش وسط مجتمع لا يشجع تلك القيم فحسب¡ بل إنه يعد غيابها علامة منقصة وازدراء للفرد¡ فسوف تجده وقد اضطر إلى أن يكون مبدعا منتجا بكفاءةº وهكذا¡ تكون قيم المجتمع هي التي تقود أفراده¡ وتحدد موقفهم من الأشياء والأناسي والمجتمعات الأخرى من حولهم.
والمشكلة أن الصفات التي تقود المجتمعات¡ ويُقَيَّم بها الأفراد¡ وبها يتميز مجتمع عن مجتمع آخر¡ من ناحية تقدمه أو تأخره¡ هي الصفات المجتمعية العامة¡ وليست الصفات الخاصة للفرد. ومن هنا¡ فإن مقياس التقدم للمجتمعات إنما ينبعث من نوعية الصفات العامة المجتمعية¡ وليس من الصفات الشخصية الفردية لأفرادها.
يمكن القول على ضوء تلك الحقيقة¡ إن الفرد ما هو إلا صنيعة مجتمعه. يمكن هنا أن نضرب مثلا بسيطا لتوضيح هذه الحقيقة. احترام الوقت¡ وحب إتقان العمل¡ قيمتان عاليتان¡ لهما فضل كبير في تقدم المجتمعات في الغرب والشرق الأقصى. نجد مثلا¡ أن الفرد في اليابان¡ أو في دول الغرب الصناعي يحافظ على تلك القيمتين¡ ويكاد يعدهما غاية في ذاتهماº تجده دقيقا في مواعيده¡ كما تجده من جهة أخرى¡ يتقن ويتفانى ويخلص في أداء عمله. من ناحية أخرى¡ تجد أن الفرد الشرقي¡ والعربي منه بالذات¡ على تفاوت بين الأقطار العربية¡ لا يشكل احترام الوقت عنده أي قيمة¡ لا من ناحية الدقة في المواعيد¡ ولا من ناحية استغلالهº كما تجده من جهة أخرى¡ لا يتقن أعماله الموكلة إليه¡ خاصة عندما يكون موظفا أو أجيرا¡ سواء في قطاع عام أو خاص¡ وتراه يتهرب من الدوام نفسه¡ ويتصنع الأعذار تلو الأعذار للتأخر عن الحضور للعمل¡ أو للغياب التام¡ وهكذا.
هنا¡ عندما نريد أن نقيم أسباب تقدم وتأخر ذينك المجتمعين¡ لا نعزو تقدم المجتمعات الغربية¡ ومجتمعات الشرق الأقصى¡ إلى تفوق الطبائع البيولوجية لأفرادهماº وبالمثل¡ لا نعزو تأخر المجتمعات الشرقية إلى انحطاط طبائع أفرادها البيولوجيةº بل يجب أن نعزو ذلك إلى الفرق في نوعية القيم المجتمعية التي غرسها كل مجتمع في نفوس أفراد. وباختصار¡ الفرق يكمن في الثقافة المجتمعية¡ التي تدعم الإتقان والجد واحترام الوقت هناك¡ وتدعم عكسها¡ من سوء الإنتاج¡ والكسل¡ وعدم احترام الوقت هنا.
لم تتقدم دول الغرب والشرق الأقصى لأن أفرادهما ولدوا محبين للعمل¡ محافظين على الوقت¡ كما لم تتأخر دول الشرق لأن أفرادها ولدوا كارهين لإنجاز الأعمال بكفاءة¡ غير محافظين على الوقتº بل إن الإنسان هنا هو الإنسان هناك¡ والفرق يكمن في نوعية البنية الثقافية المجتمعية التي تسير الفرد هنا وهناك.
في مجتمعنا¡ تقود سيارتك في شارع ما¡ فتجد أن السائق الذي يسير أمامك قد أخرج بعض القمامة فألقاها في الشارع أمام الناظرين¡ دون أن يشعر بخجل تجاه ذلكº لماذا هو يفعل ذلك¿ من المؤكد أنه لم يفعل ذلك لسوء تربيته¡ أو لخبث في طبعه¡ أو لانحطاط في خِلقته¡ وإنما لأن بنية المجتمع الثقافية لا تعد ذلك التصرف مشينا يعاب عليه صاحبه¡ حتى وإن تأفف بعض أفراده من ذلك التصرف¡ إلا أن القيم المجتمعية تحكم على ذلك الفعل بأنه ليس عيبا¡ أو ذنبا¡ أو كبيرة يُزدرى الفرد الذي يقوم به. تأتي مثلا¡ إلى إدارة حكومية فلا تجد الموظف المختص¡ وإن وجدته¡ لن تجد معاملتك قد أنجزت بعدº لماذا¿ إن ذلك راجع¡ ليس إلى سوء تربية الموظف نفسه¡ وليس إلى نقص في دينه¡ أو مروءته¡ أو شهامته¡ بقدر ما هو راجع إلى أن القيم المجتمعية لا تشجع على الالتزام في العمل¡ ولا على تحفيز سرعة الإنتاج والإبداع والكفاءة.
إن تأثير القيم المجتمعية ينسحب على كافة جوانب الحياة. تردي مستوى الخدمات في الجهات التي تقدمها راجع¡ في الغالب¡ إلى عدم تحفيز القيم المجتمعية الإنتاج والإنجاز. تجد أن الموظف يقضي ما ينيف على نصف الساعات المطلوبة منه¡ متشاغلا عن العمل¡ وما يقضيه منها في العمل¡ يؤديها على هيئة أداء واجب ثقيل¡ ومن ثم¡ فمن الطبيعي أن يؤدي عمله بأدنى درجات الكفاءة.
من جهة أخرى¡ فالقوانين الضابطة¡ ومنها العقوبات¡ فهي وإن كانت تعالج جزءا من المشكلة¡ إلا أنها قطعا لن تحل المشكلة من جذورها¡ طالما كانت القيم المجتمعية لا تدعم في ذات الاتجاه.




إضغط هنا لقراءة المزيد...