أخي خطيب الجمعة لعقل المسلم قدرات هائلة لا تقل عن قدرات من يتربعون على قمة الحضارة في الوقت الحاضر¡ والشرط الوحيد ليبدع هو أن تتاح له الفرصة ليفكر بعيداً عن الوصاية والبرمجة¡
لديك فرصة لا تتوافر لغيرك¡ يجلس أمامك الغني والفقير والعالم والجاهل¡ الكبير والصغير منصتين بكل حواسهم لما ستقوله¡ يسألون أنفسهم قبل صعودك المنبر ماذا سيكون موضوع الخطبة¿ فإن أتيت بما يهمهم ويلامس حاجاتهم فسيكونون معك¡ أما إن اقتصرت على ترديد ما قيل قبلك أو تحدثت كسياسي أو مؤدلج فسينصرفون عنك إلى ما يهمهم¡ ستبقى أجسادهم معك¡ لكن عقولهم وقلوبهم ستكون في مكان آخر خارج المسجد¡ إن كررت ما سمعوه من قبل فلن تضيف إليهم كثيراً¡ إن جعلت موضوع خطبتك تهديدا ووعيدا¡ وأسرفت في وصف العذاب بعد الموت فلن يقتنعوا بما تقوله لهم¡ فهم يعلمون أنهم سيحاسبون من رب رحيم¡ سيحاسبون ممن يعرف أنهم سيخطئون ويذنبون ويستغفرون ولهذا خلقهم¡ ولو أراد أن يجعل منهم ملائكة لكان له ذلك¡ يعلمون أنهم سيحاسبون من رب جعل الحسنة بعشرة أمثالها ولا تجزى السيئة إلا بمثلها¡ بل يحفظون عن ظهر قلب ذلك الحديث الذي بشرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "من مات لا يشرك بي شيئاً دخل الجنة". لن أطيل في ذكر الأدلة الكثيرة لرحمة الله فأنت أعلم مني بها.
أعلم أن لخطبة الجمعة شروطا لجوازها ولا بد من ذكرها¡ لكن ألا ترى معي أننا ومنذ الفتنة الكبرى مقتل ذي النورين عثمان رضي الله عنه نكرر أخطاءنا¡ ألا ترى أن العالم الإسلامي ومنذ ذلك الوقت يعيش بين فرق متناحرة ومذاهب تهاجم بعضها¡ بل وقد يكفر بعض غلاتها أتباع المذهب الآخر¡ ألا ترى أن الكثير من خطباء الجمعة يحاول جاهداً أن يكرس ذلك¡ وقد يخصص له خطبة بكاملها أو يكتفي بالدعاء على المخالفين في نهايتها¡ لا ألومه وقد تخرج من تعليم يعمل جاهداً لوأد ملكة التفكير الناقد والعقل المفكر المبتكر الذي يستخدم كامل طاقاته¡ تعليم يريد أن يجعل من الطلبة نسخا مكررة¡ بل ويجعلهم يسلكون طريقا واحدا وفكرا واحدا¡ وهذا والله ضد ما أراده الله لنا حين خلقنا مختلفين في كل شيء حتى يستطيع كل منا أن يكمل نواقص ومتطلبات الآخر¡ بل إنه من أسرار الحياة أن يعيش الإنسان في كبد وصراع في كثير من أمور حياته لسرِّ لا يعلمه إلا الله¡ وطلب منا أن نحترم الاختلاف وأن نترك حساب بعضنا له وحده في يوم القيامة.
أخي خطيب الجمعة لعقل المسلم قدرات هائلة لا تقل عن قدرات من يتربعون على قمة الحضارة في الوقت الحاضر¡ والشرط الوحيد ليبدع هو أن تتاح له الفرصة ليفكر بعيداً عن الوصاية والبرمجة¡ فالبرمجة لا تكون إلا للآلة¡ أما الإنسان فعليه أن يفكر ويستخدم مطارق الأسئلة ليوقظ ذلك الجبار القابع في رأسه.
بالأمس أطلقت الهند إلى الفضاء الخارجي مئة وأربعة أقمار اصطناعية يحملها صاروخ واحد¡ فأبهرت العالم¡ بل وتخطت بهذا العمل كل دول العالم¡ أتدري أن الأب الروحي لهذا البرنامج هو العالم المسلم المهندس زين العابدين أبو الكلام¡ والذي كرمته الهند بأن جعلته رئيساً لها بعد تقاعده من ذلك البرنامج¡ هذا العالم تعلم من والده ومعلميه حب العمل وحب الناس والإيمان أن الدين الإسلامي دين محبة وعمل وإحسان إلى الناس كلهم¡ ولهذا أبدع في تعامله مع كل من عمل معه في هذا البرنامج الناجح من أصحاب ديانات وطوائف مختلفة¡ كلهم ساندوه ليصبح واحداً من أعظم علماء القرن العشرين.
ألا ترى أخي خطيب الجمعة أن الإبداع والإنتاج في تناسب طردي مع الحرية الفكرية¡ وأن تلاقح الأفكار واختلاف مصادرها هو أساس ثروة الأمم وسرّ نهضتها¡ وهذا ما أثبتته الحضارة الإسلامية حين أنجبت العلماء في الطب والفلك والرياضيات وغيرها حين افتتح المأمون دار الحكمة وشجع الترجمة والأخذ من علوم الآخرين¡ والشاهد الآخر هو الحضارة الإسلامية في الأندلس حين استثمروا كل طاقاتهم وطاقات غيرهم للبناء قبل أن يدب الخلاف بينهم¡ فقد أسسوا حضارة لا تزال آثارها شاهدة في غرناطة وقرطبة وغيرها¡ ولولا نتاج العلماء المسلمين لضاعت الكثير من علوم اليونانيين وفلسفتهم.
أخي خطيب الجمعة أنت واحد من بناة هذا المجتمع وتوجيهه¡ بل من أهم مصادر قوته حين تتحدث بلغة القرن الواحد والعشرين¡ وليس بلغة القرون الماضية التي ابتلي فيها العالم الإسلامي بالفتن والحروب وغزو التتار والصليبيين والدكتاتوريات المتسلطة¡ خطبة الجمعة وسيلة إعلامية فاعلة لو تم استثمارها للبناء والمحبة والتسامح وترسيخ القيم التي تزيدنا قوة¡ ومحاربة العادات المضرة¡ حينها نصبح أكثر قوة ضد كل أعداء الداخل والخارج¡ فأعداء الداخل ليس ذلك الشخص المختلف عنا في فكره ومعتقده ما ظل مواطنا صالحا¡ بل هو الفقر والمرض والفساد بأنواعه والجهل المؤسس على معتقدات خاطئة¡. وهذا بحاجة إلى مقال آخر حتى نفيه حقه.




إضغط هنا لقراءة المزيد...