لوحة المفاتيح ليست كل ما يحتاجه الكاتب لتسطير مقال جديد.. البحث عن المصادر هي (الخطوة الثانية) بعد العثور على الفكرة المميزة.. فلكل مقال فكرة أساسية يود الكاتب تقديمها للقراء¡ ومن المستحسن (في الفكرة) أن تكون جديدة ومبتكرة ومتكئة على معلومات ومصادر تعزز مصداقيتها..
.. أذكر أنني كتبت مقالا بعنوان "التاريخ في سنة" تعتمد فكرته على ضغط التاريخ في سنة واحدة فقط.. تطلّب مني البحث عن أهم الأحداث التاريخية¡ ثم محاولة ضغطها في 365 يوما فقط باستخدام الآلة الحاسبة وبرنامج أكسيل!!
.. وفي أكتوبر 2016 كتبت مقالا بعنوان "كيف فشل تعليمنا بامتياز¿" تطلب مني البحث أولا عن ترتيب أفضل الأنظمة التعليمية في العالم¡ ومعرفة نتائج السعودية في منافسات الرياضيات والعلوم التي تجرى عالميا..
وقبل أيام قضيت نهاري باحثا في الكتب والمصادر التاريخية عن كعبات العرب في الجاهلية¡ كم عددها¿ وأين تقع¿ ومتى اختفت¿ (وكتبت عن ذلك مقالين نشرتها يومي الأحد والاثنين الماضيين)..
.. وفي المقابلº ليس أسهل من التخلي عن مقالات منهجية كهذه¡ والجنوح لمقالات التنظير والطقطقة.. ليس أسهل من اللجوء (كلما جفت قريحة الكاتب) لأسلوب النقد والتجريح¡ أو التملق¡ والتنزيه.. يمكن لأي مبتدئ استثارة حفيظة الجميع من خلال مخالفة "الجميع".. يمكنه تحقيق انتشار مدوٍ بالضرب على وتر حساس (أو فعل العكس) الكتابة عن قضية يؤيدها الجميع كي يضمن تأييد الجميع..
جميع الكتاب يعرفون أن أفضل قاعدة للانتشار هي "خالف تُعرف"¡ ولكن الأذكياء لا يلجؤون إليها كونها قاعدة سريعة الاحتراق.. في بداية عملي في صحيفة المدينة (قبل عشرين عاما) كتبت ثلاثة أجزاء عن الأضرار غير المباشرة للتدخين.. قضيت في كتابتها قرابة الأسبوعين حتى اعتبرت بحق مرجعاً صحياً مليئاً بالأرقام والاحصائيات والمصادر العالمية.. وفي حين لم تلفت المقالات انتباه أحد - ولم يعقب عليه أحد بكلمة شكر أو ثناء - تمكّن أحد الكتاب من استثارة قراء الجريدة بطريقة سهلة لم تكلفه أكثر من ورقة¡ وسيجارة¡ وكاسة شاي.. بدأ أولا بانتقاد تحيزي ضد المدخنين (وبهذا ضمن وقوف نصف الشعب في صفه)¡ ثم ختم مقالته بمطالبة خطوطنا الجوية بالسماح بالتدخين على رحلاتها الداخلية (وهو يدرك أن اقتراحا كهذا سيلفت إليه انتباه النصف الآخر ويجعله أشهر من نار على علم)!!
أيها السادةº
مهمة الكاتب الأساسية ليست الاتفاق أو الاختلاف مع أحد¡ ولا حتى تقديم الأجوبة والحلول لأحد.. مهمته الأساسية هي طرح التساؤلات¡ وإحداث الحراك¡ وكسر الجمود الفكري¡ وتقديم قضية تهم الفرد والمجتمع.. لا يجب أن يلعب دور الأستاذ¡ أو يتصرف كمعلم¡ بل كصاحب رأي يطرح أفكاره على الورق.. فهو في النهاية مجرد إنسان يحمل كغيره هموماً وتساؤلات يطرحها علنا¡ ثم يغادر محملا بعبارات الإطراء¡ أو الانتقاد¡ تاركا للناس حرية استنتاج أجوبتهم بأنفسهم..
.. وصدقنيº حين يستنتج الناس أجوبتهم بأنفسهم¡ سيقتنعون بها أكثر مما لو أُلقيت عليهم من أكبر معلم¡ أو فيلسوف أو متخصص في مجاله..
إضغط هنا لقراءة المزيد...