في الأسبوع الماضي¡ حدثتكم عن أضخم التجارب العلمية وأعقدها وهي تجربة المصادم الهادروني الكبير. ولم تمض عدة أيام حتى أعلنت التجربة عن اكتشاف خمسة أجسام نووية جديدة في الطبيعة. وهو اكتشاف يضاف إلى عدة اكتشافات قدمتها هذه التجربة للبشرية خلال أقل من 8 سنوات من عملها. وكان أهمها هو رصد جُسيم "هيجز" في عام 2012م.
جميع تلك الاكتشافات جاءت لتؤكد النظرية العلمية الأكثر دقة في تاريخ الإنسان! واسمها: النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات The Standard Model of Particle Physics. فهذه النظرية تنبأت بكل ما اكتشفته تجربة المصادم الهادروني الكبير وقبل أن تبدأ التجربة بما يزيد على ثلاثة عقود! والعجيب في الأمر أن دقة تنبؤات هذه النظرية العلمية الراسخة لا يوجد لها نظير في أي مجال علمي آخر.
دعوني أبدأ بمثال قريب من حياتنا العامة لأوضح ماذا أعني بـ"الدقة" في العلمية. عندما يقيس الواحد منا طوله بمسطرة¡ فإنه يعرف أن دقة القياس ربما تتأثر بمقدار ميليمترات. فإذا كان قياس طولك هو 173.5 سم¡ فإن هذا الرقم قد يكون دقيقاً مع نسبة خطأ بضعة ميليمترات مثلا. ولكن إذا استخدمت أداة تحدد طولك بالليزر فربما تتمكن من قياس طولك إلى ثلاث خانات بعد الفاصلة: 173.521 سم¡ وقد تكون نسبة الخطأ في القياس في حدود واحد من عشرة آلاف من الميليمتر. وهكذا.
ليس الهدف من المثال السابق هو الحديث عن الأطوال¡ ولكن عن عدد الخانات بعد الفاصلة (أي مستوى الدقة في القياس) التي يمكن أن نقيسها في التجربة أو أن نتنبأ بها لكمية فيزيائية ما. وفي النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات¡ فإن بعض الكميات الفيزيائية يتم "التنبؤ" بها إلى أكثر من عشر خانات بعد الصفر! ثم نجد توافقاً مع القياس التجريبي لتلك الكمية! لذلك فهي النظرية العلمية الأكثر دقة! ولأن عملية القياس التجريبي تتطلب دقة خيالية فإن التجارب المطلوبة للتحقق من تنبؤات النظرية قد تكون معقدة جداً.
ومن تنبؤات فيزياء الجسيمات هو وجود ما يسمى بحالات رنين نووية¡ وهي أجسام نووية تتركب من الجُسيمات الأولية¡ ولكنها أجسام نووية غير مستقرة¡ فهي تنشأ في تجارب فيزياء الطاقة العالية كالمصادم الهادروني الكبير¡ ثم تتلاشى. والخمسة المكتشفة أخيراً تنضم إلى قائمة من مئات الأجسام النووية التي اكتشفها الإنسان خلال بضعة عقود مضت.
قدرة الإنسان على اكتشاف الطبيعة تتجلى بأروع صورها في نطاق البحث عن مركبات المادة والكون.. فهناك تجتمع أعقد التجارب بأدق النظريات التي توصل إليها البشر.
إضغط هنا لقراءة المزيد...