إن أشد ما نحتاجه اليوم في حربنا على الإرهاب أن نُضَمِّن خطابنا الديني بكليته¡ سواء في المناشط الصفية واللاصفية أو في المناهج التعليمية¡ نموذج الإسلام الحقيقي¡ الذي نزل لتطمين النفوس¡ وتأليف القلوب¡ والرحمة بالإنسان بمطلقه¡ وتأمين سبيله¡ وأن نُعَلِّم النشأة على أن عصرنا عصر التعدد في كل شيء¡ في العقائد والشرائع والهويات والأعراق..
جاء تفجير كنيستين في مدينتي (طنطا والإسكندرية)¡ في مصر¡ ليعيد إلى الواجهة سؤال التعايش بين الملل والنحل المختلفةº وهو سؤال¡ بالإضافة إلى أنه لم يختف يوما ما¡ فإنه قديم قدم الأديان نفسها.
لا مراء في أن القصور ليس في الدين بذاته¡ وحاشاه عن ذلك¡ بصفة منزلا من لدن رب رحيم. فلقد نزل الإسلام¡ بصفته آخر الأديان¡ رحمة للعالمينº ولا يمكن أن تترجم هذه الرحمة واقعيا إلا من خلال نموذج مدني صرف¡ يحاسب الناس على واجباتهم الوطنية¡ ويتركهم يتعايشون مع هوياتهم الخاصة التي لا تتماس مع هويات الآخرين.
لقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم¡ منذ أن تشكلت ملامح دولة المدينة¡ أن الدولة كيان سياسي¡ تحركه عوامل الاجتماع العادية¡ ويحكمها بشر عاديون¡ وليسوا مفوضين من الله تعالى¡ كما ادعت الفكرة الغربية في القرون الوسطى¡ وأن كونه نبيا وحاكما¡ إنما هي حالة استثنائية¡ تنتهي بوفاته. يقول صلى الله عليه وسلم¡ في الحديث الذي رواه الشيخان: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء¡ كلما هلك نبي خلفه نبي¡ وإنه لا نبي بعدي¡ وسيكون خلفاء".. إلخ. وهنا يكون الإسلام قد سبق النظرية السياسية الحديثة في رفض فكرة التفويض الإلهي للحكام¡ بالتأكيد على أنهم إنما يحكمون وفق شروط الاجتماع البشري فحسبº ومن شروط الاجتماع البشري أن المجتمعات متعددة بالضرورة¡ وأنه لا يمكن أطرها على ملة واحدة¡ أو مذهب واحد!
يعلق المفكر الإسلامي عبدالجواد ياسين في كتابه (السلطة في الإسلام)¡ على الحديث السابق بقوله: "في هذا النص الذي أخرجه البخاري في صحيحه¡ مقابلة اختلاف صريحة بين الدولة عند بني إسرائيل¡ والدولة التي نشأت في الإسلامº في الأولى¡ ارتباط متواصل بين السياسة والدين¡ حيث الأنبياء هم الساسة¡ وكلما مات نبي خلف نبيº وفي الثانية¡ انفصام مؤبد بين السياسة والنبوة¡ لأنه لا نبي بعده". ويضيف: "وفي النص مقابلة اختلاف ثانية بين دولة الرسول حال حياته¡ حيث هو نبي وحاكم معا¡ وبين الدولة نفسها بعد وفاته¡ حيث سيكون خلفاء كثر¡ وهم حكام طبيعيون لدولة اجتماع سياسي طبيعية".
ماذا يترتب على كون الدولة كيانا سياسيا¡ تحركها عوامل الاجتماع البشري¿
إن مما سيترتب على هذا الترتيب المدني السياسي لنموذج الدولة¡ والذي قرره الرسول صلى الله عليه وسلم منذ ما ينيف على ألف وأربع مئة سنة¡ أن التعددية ستكون حاضرة على الدوام. وهي تعددية ستشمل¡ بالإضافة إلى مجالات عدة¡ مجالات الأديان والمذاهب والأعراق. ولقد راعى الرسول صلى الله عليه وسلم هذه التعددية اللصيقة بالاجتماع البشري¡ عمليا في المدينةº فبعد أن نظم العلاقة بين المسلمين أنفسهم¡ المهاجرين القرشيين من جهة¡ وأصحاب الأرض¡ من الأوس والخزرج من جهة أخرى¡ عاد لينظم العلاقة بين أولئك من جهة¡ وسكان المدينة من غير المسلمين¡ من جهة أخرى¡ بما في ذلك اليهود والنصارىº كما أنه صلى الله عليه وسلم نظم العلاقة مع القبائل¡ والمكونات السياسية خارج المدينة على أساس مدني سياسي أيضا¡ فعقد تحالفات مع تلك التي لم تدخل في الإسلام¡ وهي تحالفات تقر للنبي صلى الله عليه وسلم بنوع من السلطة¡ مع احتفاظ تلك المكونات السياسية بعاداتها الوثنية¡ كما يقول المفكر عبدالجواد ياسين¡ في كتابه آنف الذكر.
لقد شكل عقد صحيفة المدينة¡ بوصفه أول عقد اجتماعي في التاريخ¡ مظهرا بارزا لتقنين آلية تعاقدية اجتماعية تأخذ على عاتقها التعاقد على أساس حفظ مصالح البلد والدفاع عنه¡ وفي الوقت نفسه¡ احتفاظ أهل كل دين بدينهم¡ إذ يقرر صراحة بأن على المسلمين واليهود¡ وسائر الطوائف واجب الدفاع عن الدولة/ المدينة ( يثرب)º لكن في مقابل ذلك¡ لكل طائفة الحق في أن تتماهى مع دينها بكل حرية¡ (للمسلمين دينهم¡ ولليهود دينهم).
الإسلام في جوهره دين مدني عالمي¡ نزل رحمة للعالمين كلهم¡ من آمن به ومن لم يؤمن به.. يقول إمام المفسرين أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ما نصه: "وأولى القولين في ذلك بالصواب¡ القول الذي رُوي عن ابن عباس¡ وهو أن الله أرسل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع العالم¡ مؤمنهم وكافرهم. فأما مؤمنهم فإن الله هداه به¡ وأدخله بالإيمان به¡ وبالعمل بما جاء من عند الله الجنةº وأما كافرهم¡ فإنه دفع به عنه عاجل البلاء الذي كان ينزل بالأمم المكذّبة رسلها من قبله".
لنلحظ هنا كيف كان السلف ينظرون إلى علاقة الإسلام بالأمم التي لم تؤمن به¡ فلقد نزل الإسلام¡ كما كانوا يفسرون القرآن¡ لا لإرهابهم وتعذيبهم وتفجير مقار عباداتهم¡ بل لوقايتهم من العذابات التي كانت تنزل بالأمم من قبلهم.
وإذا كان هذا هو جوهر الإسلام الحقيقي¡ فكيف يزعم متطرف¡ أو مأزوم¡ أم من ختم الله على قلبه وسمعه¡ وجعل على بصره غشاوة¡ أنه نزل ليقتلهم غيلة وهم منصرفون إلى عباداتهم في بيعهم¡ أو في كنائسهم¿
إن أشد ما نحتاجه اليوم في حربنا على الإرهاب أن نُضَمِّن خطابنا الديني بكليته¡ سواء في المناشط الصفية واللاصفية¡ أو في المناهج التعليمية¡ نموذج الإسلام الحقيقي¡ الذي نزل لتطمين النفوس¡ وتأليف القلوب¡ والرحمة بالإنسان بمطلقه¡ وتأمين سبيله¡ والذي قرر كيفية التعامل مع غير المؤمنين به من منظور قوله تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين"º وأن نُعَلِّم النشأة على أن عصرنا عصر التعدد في كل شيء¡ في العقائد والشرائع والهويات والأعراق¡ ونربيه على تمثل مقررات عقد صحيفة المدينة الذي أبرمه الرسول الأعظم¡ ودشن مبدأ المواطنة الصريحة¡ بأن يؤدي كل المواطنين واجبات المواطنة¡ وعلى رأسها الوقوف سدا منيعا واحدا أمام الأخطار التي تحيق بالوطن¡ مقابل أن يتماهى كل مواطن مع ما عقد عليه قلبه¡ وما نشأ عليهº مع الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.




إضغط هنا لقراءة المزيد...