يبدو أنّ عالم اليوم قد أكمل خروجه من إطاره السابق الذي صُنع له بعد الحرب الغربية الثانية حين تم تقسيم شعوب الأرض إلى قسمين فاصلين: معسكر غربي وآخر شرقي وبينهما قسم ضعيف ثالث يترنّح بين الانحياز أو عدم الانحياز وأحيانا في منطقة اللاوزن في المعادلة الدوليّة.
كان التقسيم الفكري والاقتصادي للشعوب هو أساس تمايز المعسكرين (الشرقي والغربي) ومن ثم أخذ كل معسكر نصيبه من كعكة العالم بناء على القدرة وإمكانات الهيمنة والاستقطاب الاقتصادي والعسكري. وقتها لم يكن "الدين" أو العقائد واضحة في عناوين ذلك التقسيم عدا جهود الدعاية الغربيّة في "شيطنة" الفكر الاشتراكي في العالم الإسلامي ونظرته للدين بغرض المزيد من الاستقطاب. أما المعسكر الاشتراكي فقد روّج حلم سيادة الطبقة العاملة بشعارات العدالة الاجتماعيّة وإلغاء الطبقيّة وهو يصوّر الغرب كمجتمعات متفسّخة تعشق الماديّات وتتقاتل من أجلها ولكن لم تكد تنتهي سنة 1992 إلا والعالم يفرّ من الاشتراكيّة عدا دول صغيرة بقيت تتغنّى بالماضي وشعاراته (فيتنام¡ لاوس¡ كوبا¡ كوريا الشماليّة).
اليوم عادت "روسيا" التي قادت الاشتراكيّة اللادينيّة عقودا إلى حضن العقائد وبات القيصر "بوتين" حامي الكنيسة الشرقيّة. وها هم الأميركيون بدأوا صناعة عقيدتهم الجديدة تحت شعارات رئيس جديد بأفكار تبدو وقد انخلعت تماما من قيم "الحلم الأميركي" ووعود "أرض الفرص" و"جنة المهاجرين". أمّا في أوروبا فوسط معاناة اقتصاد عليل ووحدة أنهكتها التناقضات ثم كانت ثالثة الأثافي مع خروج "المهندس" البريطاني الأعظم من اتحاد الأوروبيين. هذا الاتحاد المسيحي "الأبيض" يواجه تحدي بقاء قوة هويّة ونسبة "البيض" في القارة البيضاء بين أفواج المهاجرين ونقص المواليد وارتفاع المآذن في معظم المدن الأوروبيّة "المسيحيّة" التي انطلقت منها "الحروب الصليبيّة" يوما ما.
في العالم العربي تبدو الجراح أعمق بين بطالة فتّاكة واحتراب مجنون مع وضوح ضياع فكرة الوطن مقابل الانتصار للطائفة ونصرة العرق. وحتى مرتكزي التكتّل المتاحَين فقدا بريقهما: ففكرة القوميّة "العربيّة" أصبحت وصمة تلاحق "القومجيين" على حد وصفنا¡ ونداءات العودة للفكرة الإسلاميّة باتت "تهمة" لا يجهر بها سوى المطاردين. في الخليج العربي تشكل تحديات نقمة النعمة وبطالة عصر التقنية والجوار الملتهب أسئلة كبرى أمام مجتمعات شابّة تتجادل كل يوم ولهويتها ومستقبلها. أمّا الأنظمة العربيّة الثوريّة و"الممانعة" فقد تهشّمت واحدة بعد أخرى لأنها عاشت - دون مشروع أو مشروعية - على دغدغة الحلم العربي وقد انتهى¡ ثم تغنّت بقضيّة فلسطين وقد صُفّيت كما يبدو.
مسارات
قال ومضى:
حينما تكثر الجلبة ويعلو الغبار السعيد هو البعيد.
إضغط هنا لقراءة المزيد...