يُروى عن السلف الصالح الكثير من المواقف التي تشير إلى هيبتهم من تولي المناصب العامة إما ورعاً وإما زهداً. ومن أطرف ما يروى أن أحد السلف طُلب إلى الإمارة فلما بلغه ذلك هرب. كان هروبه رداً عملياً على رفضه القاطع للولاية حيث قطع الأمل في مراجعة قراره. وقراءة هذه النصوص التي تروى عن زهد السلف في الولاية لا تدل أن الأولى التخلي عنها¡ لكنها تدل أن هؤلاء السلف كانوا يستشعرون المسؤولية فلا يرون إلا جانب التكليف الذي ربما يثنيهم عن القبول. واستشعار التكليف وحجم المسؤولية مع الشعور بالخوف ربما كان عاملاً للنجاح يحتاجه كل من يتولى أمراً كان صغيراً أو كبيراً.
لكن ما يغلب اليوم هو التنافس على تولي المناصب العليا. حيث يكون المحرك للإنتاج ليس الخوف بل الطمع. فعندما يتولى أحدهم منصباً تنهال عليه التبريكات والتهاني¡ ويطلب إلى الاحتفال بهذه المناسبة سواء كان داعياً للاحتفال إذا كانت ترقية أو منصباً صغيراً¡ أو مدعواً عندما يكون منصباً كبيراً. وفي غمرة هذا الضجيج الاجتماعي الذي يحتفل بالتشريف يغيب الشعور بالتكليف شيئاً فشيئاً مع كل مباركة أو تهنئة. أليس من الأولى أن يكون التكليف حاضراً بالقدر نفسه في الأذهان¿ بل إنني ما زلت أتعجب من عادة تهنئة المسؤول الجديد وإن كنت ممن يمارسها جرياً على العادة. فالمنصب ليس جائزة خالية من المنغصات حتى يفرح بها أحدهم مهما كان المنصب كبيراً. لا أشك أن العمل بحد ذاته مهما كان هو من أنواع الرزق سواء كان بمقابل مجزي أو دون مقابل. وربما حمل المنصب الكبير جانباً مادياً وسمعة اجتماعية مرموقة تستحق الاحتفاء. لكن يظل جانب التكليف منازعاً قوياً للمغريات المادية والاجتماعية مهما كانت.
إن الصعود في سلم القيادة يعني اتساع نطاق التأثير. وعند النظر إلى مقولات السلف سنجد هذا المفهوم حاضراً بقوة. فاتساع نطاق التأثير يعني أن القرارات التي ستصدر منك ستؤثر في عدد أكبر من الناس. سيتسع التأثير حتى يشمل الموظفين وغير الموظفين. إذا كان المنصب تعليمياً فسيشمل أطفال المدارس الذين يصطفون كاللؤلؤ¡ ويشمل الأمهات المنتظرات عودتهم كل يوم. وإذا كان المنصب في الصحة سيتسع نطاق التأثير ليشمل المرضى في غرف العمليات وأهليهم الذين ينتظرون في الممرات الطويلة. وربما اتسع الدور ليشمل التأثير أكثر من مجال بكل تداعياته المباشرة وغير المباشرة. فلعل خير ما يقال لمن تولى مسؤولية عامة إذن أن يقال: كان الله في عونك.
إضغط هنا لقراءة المزيد...