نحن الآن نعيش في مدن ذكية ومبان ذكية¡ أصبحت فيها التقنية «لاعباً» أساساً غيرت كثيراً من الثوابت التقليدية التي كان المصممون يعتمدون عليها.
في مطلع الأسبوع الفائت شاركت في مؤتمر الإعاقة الخامس الذي نظمه مركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة في مدينة الرياض¡ وبالتحديد في ورشة «الوصول الشامل» وهو مشروع تبناه المركز منذ سنوات¡ ولا نعلم إلى أي مدى يتم تطبيقه الآن¡ لكن الأكيد أن هناك تزايداً كبيراً في الوعي نحو ذوي الاحتياجات الخاصة على المستوى المجتمعي وتشكل رغبة ملحة لدمجهم في المجتمع¡ وإتاحة البيئة العمرانية لهم بشكل سلس وذكي. العالم كله يسعى لجعل كل فئات المجتمع بما في ذلك «المعوقين» يعيشون في بيئة تجمعهم جميعاً دون أن تحابي أحداً على حساب الآخر¡ ودون أن تهمل أو تهمش أحداً¡ وهذا أمر يتطلب وعياً وتعليماً وبنية تحتية وفوقية يفترض أن تتوفر حتى تكون الفئات الأقل حظاً قادرة على الحياة بشكل طبيعي في المدن.
تحدثت في الورشة عن محاولة جائزة عبداللطيف الفوزان لعمارة المساجد تطوير مواصفة رقمية لذوي الاحتياجات الخاصة (بصرياً وحركياً وسمعياً) لاستخدام المساجد دون مساعدة أحد (وهي مطروحة من قبل هيئة المواصفات والمقاييس كذلك ممثلة في الأستاذ تركي المانع)¡ وستكون هذه المواصفة جزءاً من كود بناء المساجد الذي تم الاتفاق عليه بين الجائزة ووزارة الشؤون الإسلامية وبمباركة من الأمير سلطان بن سلمان صاحب الفكرة وراعيها. الاستجابة لحاجات ذوي الإعاقة من خلال توظيف «الذكاء الصناعي» أصبح مسألة مهمة جداً فنحن الآن نعيش في مدن ذكية ومبان ذكية¡ أصبحت فيها التقنية «لاعباً» أساساً غيرت كثيراً من الثوابت التقليدية التي كان المصممون يعتمدون عليها.
ذكر لي الأمير سلطان أنه دعا معمارياً أميركياً كفيف البصر اسمه «كريستوفر دوني» وهو من سانفرانسيسكو بكالفورنيا للمؤتمر وأن علي مقابلته. في البداية لم أستوعب الموضوع كيف يكون معمارياً وكفيف البصر¡ فالعمارة مهنة بصرية أصلاً¡ ولم يخطر ببالي في يوم أن أقابل أحداً يمارس العمارة لا يستطيع أن يرى. عندما قابلت «كريس»¡ وكان ذلك في كلية العمارة في جامعة الملك سعود¡ جلست معه على انفراد قبل أن يقدم محاضرته وقال لي: إنه فقد بصره في العام 2008م¡ نتيجة لعملية جراحية لإزالة ورم في المخ¡ لكنه لم ييأس وها هو اليوم بعد عشرة أعوام يعتبر أهم المعماريين المعاصرين في مجال التصميم لفاقدي البصر.
لن أقول إن الاستجابة العالية للتحدي الصعب الذي طرأ على حياة «كريس» صنع منه إنساناً آخر¡ بل إن هذه المفاجأة غير المتوقعة¡ على حد قوله¡ دفعته إلى أن يبدع ويبتكر ويصنع حياته الجديدة¡ فهو محب لمهنة العمارة ولا يستطيع أن يتخلى عنها في هذا العمر¡ ولكن كيف يبدأ من جديد¿ وفي ظل هذا الظرف القاهر الذي جعله يفقد بصره. أن يصنع المرء عالمه الخاص وأن يكيف هذا العالم ليوائم ظروفه فهذا أمر لا يتحقق بسهولة لأنه يحتاج إلى «إرادة حديدية» وأحسب أن «كريس» كان يعي ذلك¡ وكان يملك المقدرة على تحقيق هذا العالم. لقد طور هذا المعماري «الأعمى» طريقة في الرسم المعماري تشبه لغة «بريل» فالخطوط نافرة على الورق يمكن تحسسها وقراءة المخططات بسهولة¡ ولم يتوقف الأمر عند ذلك وحسب.
طرحت له فكرة «المواصفة التي نريد تطويرها فقال لي بالنسبة لفاقدي البصر لا أنصحكم أن تعتمدوا على «العصاة» فكثير من الأفكار تتجه لجعل العصاة رقمية¡ لكنها تتعرض للكسر والدهس ويمكن أن تكون أداة إعاقة لا مساعدة¡ ولكن يمكن استخدام الهاتف الذكي¡ ثم أخرج هاتفه وقال لي سوف أريك كيف استخدمه كما أنت تستخدمه¡ وفعلاً صار يستخدم هاتفه بسهولة من خلال برنامج صوتي. قالي لي العالم الرقمي الآن يفتح الطريق أمام ذوي الاحتياجات الخاصة للعيش بشكل طبيعي¡ وعليكم أن تقتحموا هذا العام.
لقد دار بيني وبين هذا المعماري المثابر حديث طويل لا يتسع المجال لذكره لكنه حديث ترك أثراً في نفسي لا يمحى¡ فأنا أمام مثال غير مسبوق لإنسان لم يترك اليأس يدخل قلبه. لقد غير كثير من قناعاتي حول العمارة لكنه جعلني أتساءل عن البنية الاجتماعية التي توفرت له ومكنته من المقاومة وهزيمة اليأس¡ ولكن يا ترى لو أنه كان يعيش بيننا فهل كان سيستطيع بناء عالمه الجديد¿ وهل كان سيجد نفس الدعم من محيطه الاجتماعي والمهني¿.




http://www.alriyadh.com/1673491]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]