لا يكفي أن يستمر المرء في ممارسة دور مُعيّن لسنوات طويلة لكي يصبح مبدعاً أو خبيراً في مجاله¡ فالخبرة والإبداع لا يتحققان إلا بمضاعفة الجهد والسعي المتواصل للتطور بتعزيز نقاط القوة وتجنب نقاط الضعف¡ وفي مجال الرواية الشعبية يعد الراوي الكبير محمد الشرهان أبرز الرواة الذين استطاعوا تحقيق النجاح¡ وتمكّن من الاستمرار والتميز لأكثر من أربعة عقود رغم ما أشرنا له في المقال السابق من تراجع لدور الرواة الشعبيين مع انصراف الأجيال الجديدة لوسائل الترفيه الحديثة. ومن يتابع مسيرة الشرهان في الرواية يلحظ بأنه لا يتردّد في استخدام «إستراتيجيات» مُتنوعة وذكية تساهم في زيادة تأثير مروياته¡ مع وعيه التام بضرورة الالتزام بما يمكن تسميته «آداب الراوي» التي تحدّث عنها في حلقة خاصة من برنامجه تحت عنوان: (أسلوب الرواية) فهو على وعي بأهمية إحسان اختيار القصص والقصائد التي تُناسب المقام وتُلائم السامعين¡ إضافةً إلى ضرورة تجنب الإطالة أو استئثار الراوي بالكلام في المجلس مع وجود رواة وشعراء كبار¡ أو وجود شعراء ناشئين ينتظرون إتاحة المجال أمامهم للإفصاح عن مواهبهم وتشجيعهم على الاستمرار.
يُدرك الشرهان¡ كما يدرك غيره من الرواة¡ أن النص الشعبي المروي هو أشبه ما يكون بالمعادلة التي يتكوّن طرفاها من: «القصة» من جهة و»القصيدة» من جهة ثانية¡ وأنّ غياب أحدهما سيؤثر سلباً في اكتمال وتلقي الرواية. وقد تغلّب على هذه الإشكالية بابتكار حلول تختلف باختلاف الطرف الغائب¡ ووضّح في حوار قديم طريقته عند غياب الطرف الأول فقال: «بعض القصص أبتدعها من نسج خيالي لتوضيح قصيدة في الأصل هي غير مفهومة أو أبياتها قليلة جداً». وللقصة¡ كما أكّد في الحلقة المشار إليها¡ دور مهم في فهم القصيدة وتوضيح جوانب الغموض فيها. أما عند غياب الطرف الثاني¡ وهو الأهم بالنسبة لكثير من الناس¡ فيمكننا التعرّف على الحل الذكي الذي ابتكره الشرهان من خلال الاستماع لحلقة عنوانها (الوفاء) من برنامجه (مع الشرهان)¡ ويذكر في ختامها أنّه طلب من الشاعر صالح بن عبد العزيز المنقور¡ الذي عاصر بطلي القصة¡ نظم قصيدة على لسان أحدهما لكي توثق ما جرى¡ ولكي يكتمل جمال القصة بجمال القصيدة¡ فالقصيدة ستساعد حتماً على زيادة تداول القصة ووصولها للأجيال القادمة.
تتوهم فئة من المتابعين بأن الراوي سينجح بمجرد اختيار النص الجيد ونقله للمستمعين¡ لكن هذا الأمر أضحى مستحيلاً في زمننا هذا¡ فمن يتأمل في مئات الحلقات المميزة التي قدّمها الشرهان في برامجه يُدرك أن اختيار النص ما هو إلا خطوة أولى يجب أن تتبعها خطوات لاتقل أهمية¡ من بينها: أن يكون النص مكتملاً وممتعاً ويُلامس قضايا واهتمامات الناس على اختلاف شرائحهم واهتماماتهم¡ وأن يكون للراوي إستراتيجياته التي تساعده على تجاوز المشكلات التي تواجهه¡ وأن يضع لمساته الخاصة التي تضفي على النص المروي المزيد من السحر والجمال والجاذبية.




http://www.alriyadh.com/1773219]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]