إن علينا أن نقف ملياً ونتأمل ونحلل ونفسر هذا التفكك العربي وهذا التنمر وذلك التشكيك في كل من المؤسسات والقادة وحتى الأفراد¡ فإن ما تضج به الساحة أمر وكأنه ضرب من الخيال¡ إذ تصدح الحناجر وينعق الغراب في كل الخرائب¡ وكل صوت يعزف لحناً نشازاً..
حينما تكالبت الأمم كما تتكالب الخراف على قصعتها¡ واجتمع كل ذي شأن لنصرة اليهود والمحتلين لبيت المقدس¡ لم يتنازل عنه العرب¡ جيلاً بعد جيل. لكننا هنا لن نتحدث عن الجيوش العربية الجرارة حينها¡ وعن وقوف العرب كلهم صفاً واحداً حكاماً وشعوباً ومؤسسات¡ ولكننا نتحدث عن ذلك الوجدان العربي الموحد¡ فنتحدث هنا عن وحدة وجدانه وعاطفته وعقله¡ وهو ما شد من أزر تلك الجيوش¡ فأنا شاهد على ذلك العصر¡ وعلى تلك الظروف الصعبة¡ حينما ذهبت مع زوجي أحمل طفلاً رضيعاً وآخر في عامين إلى سورية - مع اللواء الثامن الذي شارك في تلك الحرب - ومعي أسر وأطفال ونساء ذهبنا لا لنحارب¡ بل لنرفع من معنويات أزواجنا حاملين أطفالنا على أكتافنا وكأننا ذاهبون إلى نزهة خلوية¡ لأننا مع جيشنا ومع أسرنا¡ ونؤمن تمام الإيمان أن النصر لنا وإيماناً بالله ثم بمليكنا وثقة في قراراته رحمة الله عليه الملك فيصل - طيب الله ثراه -¡ ثم إن القوة الدافعة هي اليقين التام الذي يحركه الوجدان الجمعي وتلك هي القضية التي نتحدث عنها.
أما وأن (ما أشبه بالبارحة) - كما يقول المثل الشعبي - فإن علينا أن نقف ملياً ونتأمل ونحلل ونفسر هذا التفكك العربي وهذا التنمر وذلك التشكيك في كل من المؤسسات والقادة وحتى الأفراد¡ فإن ما تضج به الساحة أمر وكأنه ضرب من الخيال¡ إذ تصدح الحناجر وينعق الغراب في كل الخرائب¡ وكل صوت يعزف لحناً نشازاً¡ لأنه لا يستقيم ونوتته الموسيقية في سلمها التراتبي الذي يجب أن تكون عليهº ارتجالية غير مدروسة¡ وبناء عليه حدث هذا الخلل الوجداني في كل شيء¡ ففقد كل بوصلته¡ لأن الصوت لم يعد منسجماً مع الصوت¡ وأوتار الحناجر ترهلت فأصبحت تعزف نشازاً كما أسلفنا¡ ولأن كل صوت لم يتقن دراسة معزوفته الموسيقية¡ فارتجل ثم ارتجل حتى بات لا يخاطب إلا نفسه فلا يسمع إلا ذاته!
كل هذه الأمور قد يظن القارئ أنها لا تعنينا¡ (فحرية الرأي) غير المشروطة - التي التبس أمرها علينا - قد أنبتت هذا الانفلات وتلك الفوضى الفكرية القولية منها والفعليةº إلا أن الأمر في حقيقته جد خطير¡ لأنه إذا ما امتدت سطوته إلى تراب الوطن ووحدته المشروطة بوحدة شعبه لفعل أفاعيله¡ وهو ما يحدث الآن والذي كشفته أو ساعدت عليه تلك الآلة الرقمية والمنتشرة في جيوب القفاطين وفي الأودية وعلى منابت الشجر وصلدة الحجر¡ فلا نوم ولا صحو إلا على أزرة الهواتف.
وشتان بين الأمس واليوم¡ والذي وضعتهما بين أيديكم لنعلم المؤثر الكبير بين الفاصلتين أو قل بين الحدين.
وهو فن صياغة الوجدان الجمعي¡ والذي استغله - مسبقاً - أولئك المتشددون¡ فقد خبروا فن هذه الصنعة في أمرين أولهما: استعمال العقيدة مدخلاً¡ وهو أكبر مدخل للوجدان والتأثير فيه. وثانيهما: استخدام الفنون بكل ما تحمله من منطوق أو مقروء أو حتى مسموع¡ فهنا مكمن العاطفة والوجدان تجاه أي أمر من الأمور. فإذا ما نظرنا إلى تلك الوحدة العربية المترابطة والمشار إليها سلفاً لوجدنا أن الركيزة الأولى هي العقيدة - عقيدة الارتباط بالأرض على سبيل المثال - فهي عرضه في المفهوم العربي¡ والثانية الفن ومقوماته التي أهدرناها على عتبات الإسفاف والعنف وطلقات الرصاص! ونحن لا نعلم أن وجدان الشعوب مرتبط بفنونهاº ولذلك نحلل نحن الدارسين فنون الشعوب لنصل إلى كنه شخصيتهم.
فماذا ننتظر من جيل تربى على أغنية (أديك في السقف تمحر أديك في الجركن تركن جـامد) أو غنوة (أنا نمبر ون) والتي ترسخ هذا التنمر المقيت. بينما إذا ما تأملنا انتصارنا في حرب أكتوبر وجعل الشعوب والأطفال جحافل خلف قادتهم في صوت واحدº سنجد أنهم قد تربوا وجدانياً على ذلك الحس المرهف الذي صاغته أم كلثوم وصاغه عبدالحليم¡ ولا أحدث هنا عن أغانيهم الوطنية التي ألهبت الوجدان الشعبي¡ ولا عن جولاتهم بفنهم لدعم الجيوش وشحذ الهمم¡ ولكنني أتحدث عن (شحذ الإحساس على مبرد) فعاد رقيقاً لا يحمل العنف والكراهية بل يحمل الحب والسلام والتسامح¡ عوضاً عن استقرار العواطف في البيوت وبين الأزواج والأحبة¡ والتي يتفشى الآن فيها الطلاق حتى أصبح ظاهرة.
وحقيقة الأمر أنني أتعجب من استطلاع قدمته إحدى القنوات عن أم كلثوم دفاعاً عن مهاجمة أحد المفكرين لها وأنها تنشر التخدير¡ وبطبيعة الحال هناك حد دقيق بين فنون التخدير وفنون صياغة الوجدان وإيقاظ الوعي¡ وهذا الحد لا يفقهه إلا الباحثون في هذه الفنون والمتخصصون في مجالاتها.
إن ذلك الرقي الذي كان في أغانينا كان يحمل في طياته عالماً من الرقة والحس الذي يتحول بدوره إلى بناء اجتماعي شعبوي وأمن قومي ومحلي¡ ونحن نتجاهل ذلك¡ وكيف ونحن نرصد أغاني وأشعار أسلافنا التي حددت ملامحنا¡ فنحن شعب يعمل جل أعماله من بناء¡ وحطب¡ صيد¡ ترحيب الضيف¡ وحتى في الحرب بما يسمى في التراث الشعبي بأغاني العمل¡ وهذا جانب مهم يجب أن ننتبه له لكي نعيد صياغة البنية الاجتماعية وجدانياً¡ وقد نوهت عن هذا في مقال سابق¡ حينما تبارى المتناطقون في كيفية إيجاد حل لهذه الظاهرة التنمرية والانفرادية¡ التي قد تصل إلى الانعزالية بعد العدوانية¡ بينما نحن كشعوب عربية نتسم في عمقنا بالفطرية والحب والعاطفة الجياشة¡ والتي هي سمة من سمات الشخصية العربية¡ فهل نتدارك الأمر¿!
http://www.alriyadh.com/1779074]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]