يدخل المواطن البسيط (الذي تتمحور حياته اليومية حول وظيفته البسيطة وزوجته وأبنائه) إلى سيارته المتواضعة الخالية من أبسط المزايا¡ ليجد على الكرسي الذي بجانبه مظروفاً أبيض¡ يفتحه بهدوء ليجد بداخله رصاصة¡ رصاصة واحدة! تخيل فوراً أنها ستكون ثمنه¡ أو ثمن أي من أفراد أسرته الصغيرة¡ لكن السؤال الذي طاف بخاطره¡ وهو بين الخوف والرجاء والحيرة: لماذا¿ فهو لا دخل له بالسياسة وألاعيبها¡ ولا علاقة له برجال المال والأعمال¡ وليس له خصومات¡ وهكذا ومن تلك اللحظة أصبح خبر الرصاصة مثل نقطة ماء قاسية¡ ألقيت وسط بركة أو جدول أو بحر¡ توسع خبر النقطة/ الرصاصة¡ ما شاء له التوسع¡ حتى أصبح خبراً في كل بيت أو مقهى أو معرض¡ مر عليه من استقرت الرصاصة على كرسي سيارته.
هذه الرصاصة قلبت حياة المواطن "جلال ملك" رأساً على عقب¡ فأخذ يتوخى الحرص على أبنائه¡ ويتوخاه وهو داخل إلى المنزل¡ يتوخاه وهو يزور المحلات القليلة المجاورة للحي الصغير الذي يسكن فيه¡ لشراء تموين منزله أو عند الحلاق. يتوخى الحرص وهو يجلس على كرسي المقهى¡ فبدلاً من الانشغال¡ كما هي العادة بشرب الشاي والفرجة على التلفزيون¡ أصبح همه مراقبة الداخلين والخارجين¡ وكأنه يبحث بينهم عمّن دس له الرصاصة¡ وكلما مرت الأيام زادت الضغوط¡ وزاد تخبطه¡ حتى أخذ يفكر في الهجرة لكن إلى أين¡ الخارج تكاليفه عالية¡ والهجرة إلى الداخل ليست حلاً¡ فمن يترصده في بغداد¡ قادر على رصده في أي مدينة أو قرية.
وحتى يكون قراره في الهجرة ناجزاً بدأ في بيع أثاث منزله وسيارته¡ حتى أصبح في كل يوم يبيع شيئاً¡ في أثناء هذه الدوامةº وكي تتصاعد وتيرة الرصاصة¡ طالت أيدي العصابات المسلحة¡ أناساً من سكان حيه الصغير¡ الحلاق الذي تنطلق من صالونه الأغاني الشبابية¡ والعامل الذي يخدم المنازل المجاورة¡ والجار الذي سحب من أمام منزله¡ وغيرهم ماتوا واحداً وراء الآخر¡ دون أن تصل لأحدهم رصاصة مثل التي وصلته¡ ولم يرسل لأحد منهم رسالة أو اتصال هاتفي¡ كلهم كان لديهم علم برصاصة "جلال ملك"¡ دون أن يكونوا على علم بأي تهديد قبل استهدافهم¡ مع أنهم يرون بعضهم عدة مرات في اليوم الواحد¡ وهو ما فاقم أزمته!
الرواية "الكابوسية" التي كتبها العراقي "شاكر الأنباري"¡ تدور أحداثها في شارع صغير قديم¡ اسمه شارع "الدير"¡ وقد أصر المسلحون المتزمتون على تغيير اسمه ليصبح شارع "الزير"! لم تقل لنا رواية "أقسى الشهور" من وضع الرصاصة¡ وكيف وضعها. ولم تقل لنا ما المصير الأخير لـ"جلال ملك"¡ وليس مطلوباً منها أن تقولº فأنت عندما يتسلل إليك القلق أو الاكتئاب¡ لا تدري من أين يتسللان¡ لكن الجو العام الذي قد يكون معبأ بالغبار أو التصفيات أو الجوع أو الظلم أو النهب¡ قادر على أن يقذف عليك¡ وفي غفلة منك¡ أعتى العلل¡ دون أن يكون لك ذنب فيها¡ وما هو موجود في الشارع البغدادي الضيق¡ قد يكون موجوداً في أرقى الشوارع الأوروبية والأميركية والعربية¡ كل فرد مؤهل لأن تستقر رصاصة بجانبه أو بصدره¡ رصاصة مادية أو معنوية!
http://www.alriyadh.com/1781537]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]