تاريخ الافتراء على الجن تاريخ طويل جدًا¡ لكن الافتراء عليهم أخذ منحى بالغ الخطورة منذ اللحظة التي سلّمت فيها فئة كبيرة من البشر بإمكانية قيام الجن بارتكاب جرائم قتل الناس والسطو على أموالهم وإقامة العلاقات المحرّمة معهم. وتأتي قضية «قاضي الجن» التي حُكم فيها قبل أيام ضمن سلسلة طويلة من القضايا التي يحاول فيها المجرمون التهرّب من مسؤولية جرائمهم بنسبتها إلى الجن¡ ويقومون بذلك وهم على يقين تام بوجود أشخاص من ذوي العقول الصغيرة يؤمنون بالخرافات¡ ويُسلِّمون أنفسهم بسهولة للمحتالين من اللصوص والقُصاص والمشعوذين.
تمكّن الرواة الشعبيون¡ في الماضي¡ من إخراج الجن من حبس «القماقم السليمانية» الضيقة التي يعيشون فيها داخل أعماق البحار ليصبح لهم دور أكثر فاعلية وأكثر تأثيرًا في حياة الناس¡ وأتاح خيال الرواة الواسع منح عفاريت الجن قدرات خارقة تتيح لهم السفر لعوالم غامضة وساحرة¡ والقيام بأمور عجيبة وغريبة يصعب على البشر تصديقها أو القيام بمثلها¡ وكان هدف الراوي من كل ذلك زيادة الجاذبية والتشويق في حكاياته وترغيب السامعين فيها. ثم جاء الشعراء ليرسخوا في الأذهان إحدى أشهر الخرافات¡ وهي وجود أتباع من الجن يلهمونهم القصائد الجيدة ويُعينونهم على مقارعة خصومهم من فحول الشعراء والتغلب عليهم بسهولة. وعزز هذه الخرافة بعض الرواة كأبي زيد القرشي¡ الذي أورد في (جمهرة أشعار العرب) قصصًا غريبة عن «قول الجن الشعر على ألسنة العرب»¡ وربما كان الهدف الرئيس من اختلاق الرواة والشعراء لتلك القصص هو إضفاء مزيد من الأهمية والقيمة على دور الشاعر وإنتاجه الأدبي.
ما قام به رواة الحكايات الشعبية والشعراء يُعد أمرًا مقبولًا مُقارنة بما فعله القُصاص الذين أضافوا إلى الافتراء على الجن جريمة الافتراء على النبي صلى الله عليه وسلم¡ فمن يطلع¡ مثلًا¡ على كتاب (الإيضاح والتبيين لما صح مما لم يصح من الأحاديث والآثار والهواتف والجن والشياطين) سيجد مئات الأحاديث الموضوعة والآثار المكذوبة التي تتهم الجن بالقتل والاختطاف والقيام بأفعال قبيحة لا يمكن أن يقوم بها سوى البشر. والمؤسف أن كثيرًا من تلك الآثار ما زالت تُتداول بين الناس وتجد من يصدقها وينشرها¡ وأظن أن من أوضح نتائج تداولها والإيمان بها ما رأيناه من جرأة القاضي¡ المدان باختلاس مئات الملايين¡ في تحميل الجن مسؤولية سرقاته¡ وما لوحظ من تساهل بعض الرقاة ومن يفترض أنهم من المتدينين في تصديق أكاذيبه والدفاع عنه.
وكما أُسدل الستار على قضية «قاضي الجن» الفاسد بالحكم عليه بالسجن عشرين عامًا¡ نرجو أن تستمر حملة مكافحة الفاسدين والمفترين على الجن¡ وأن يكون هناك جهدٌ مُضاعف في زيادة الوعي بأن مثل تلك القصص لم يعد من اللائق التصديق بها أو التفاعل معها إلا حين تأتي في سياق أدبي تصوره لنا الحكايات الشعبية¡ أو في قصائد الشعراء التي كثيرًا ما يطغى فيها الخيال على الواقع.
http://www.alriyadh.com/1787344]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]