كثيراً ما نقرأ عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في شؤون شتى من الحياة¡ ولكن هل قرأت - يوماً - أو سمعت عن سيرته في فتواه¿
لا شك أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان له سيرة عظيمة في هذا الجانبº كما في كل الجوانب¡ وتستطيع أن ترصد عدداً مما تميزت به فتاواه صلى الله عليه وسلم التي ينبغي لكل من تولى مسؤولية الإفتاء أن يكون متخلقاً بها¡ وذلك إذا قرأت جملة من هذه الفتاوى بعين المتأمل الدارس.
وقد رصدت عدد ثماني وعشرين مزية من مزايا فتاواه. بالطبع لن أستطيع أن أجمل هذه المزايا في هذا المقال¡ ولكن سأشير إلى بعضها.
فقد لاحظت أن فتاواه - عليه الصلاة والسلام - جوامع كلمº بالكلام القليل يختصر الشيء الكثيرº مثل قوله: "من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل" وقوله: "نعم إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة". ولذلك أصبحت بعض هذه الفتاوى قواعد فقهيةº لأنها كما قيل: "دساتير في أفكارها¡ مواقير في أثمارها". وهي مع أنها جوامع كلم: "واضحة لا إشكال فيها".
ومما لفت انتباهي وأنا أقرأ فتاواه- عليه الصلاة والسلام - مزية الإقناع. فهو لا يتوقف عند إفهام السائل الجوابº بل يترقى به درجه أرفع وأزكى¡ وهي: أن يقتنع بالجواب حتى يرى أنه الحق.
فهذا رجل من بني فزارة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم - وقد أخذ الشك به مأخذه - قائلاً: إن امرأتي ولدت غلاماً أسود. يعني على غير لونه¡ فجواب الفتوى يمكن أن يكون: إنه ابنك ولدته امرأتك على فراشك¡ ودعك من وساوس الشيطان. كان يمكن أن يكون هذا الجوابº إلا أن السائل كان سينقلب بالجواب دون أن يحظى بالقناعة.
بيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلكº بل ضرب له مثلاً من بيئته فذهب بهذه الوساوس من أصلها¡ فقال له: هل لك من إبل¿ قال: نعم¡ قال: فما ألوانها¿ قال: حمر. قال: فهل فيها من أوْرق¿ قال: إن فيها لورقاً. "والورقة من الألوان في الإبل: الذي يضرب إلى الخضرة كلون الرماد¡ وقيل غبرة تضرب إلى السواد". فقال - عليه الصلاة والسلام -: فأنى أتاها ذلك¿ قال: عسى أن يكون نزعه عرق. عندئذ وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى النتيجة التي كان يتوخاها من ضرب هذا المثال¡ فقال: "وهذا عسى أن يكون نزعه عرق".
فتأمل هذه الفتوى ما أطيبها وأحسنها! لقد أنقذت عفاف امرأة¡ وحياة أسرة. ثم تفكر في طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في الإقناع¡ لقد استدعى ذلك منه خطوات:
أولاً: أن ينقلب المسؤول سائلاً¡ والسائل مسؤولاً.
ثانياً: أن يتوجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الرجل - الذي هو في حيرة من أمره وشك في امرأته - أن يتوجه إليه بأربعة أسئلة متتاليةº كل سؤال يضرب بفأس في قاع الوسوسة والشكº لينبع ماء الثقة والانس.
ثالثاً: وعن طريق الإقناع: ينطق هذا السائل بجوابه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم - أيضاً - يبين أهمية السؤال إن كان كذلك¡ فمرة سأله معاذ بن جبل رضي الله عنه قائلاً له: يا رسول الله¡ أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار. فقال - عليه الصلاة والسلام -: "لقد سألتني عن عظيم¡ وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً¡ وتقيم الصلاة¡ وتؤتي الزكاة¡ وتصوم رمضان¡ وتحج البيت".
ولا شك أن بيان أهمية السؤال قبل الجواب¡ مما يحفِّز السائل إلى سماع الجواب¡ ومن ثَمَّ الحرص عليه والعمل به.
http://www.alriyadh.com/1802269]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]