«بعد الاتفاق معهما شعرت بمدى التفاوت الكبير بين قواي الخاصة¡ المهمة الموكولة إلي¡ وهي الجمع بين نهرين دفّاقين¡ يجري كل نهر منهما بشكل متوازٍ مع الآخر¡ في لقاء أسبوعي»
( أورلاندو بارون)
من البدهيات أن الإنسان عندما يحس بأنه يقوم بعمل يكون مواجهاً للعامة/والخاصة¡ تتكون لديه بعض التساؤلات التي تنصب في دائرة كبرى تتسع باتساع تخيل أهمية العمل ومدى قبوله لدى المقابل¡ كما لديه هو شخصياًº لأنّ كل إنسان يهمه أن يقدم ما يرضاه ويقتنع به¡ وما يتقبله الآخرون لكون العمل مشاركة بين معطٍ وآخذ¡ فالصحفي/الإعلامي¡ صاحب مهنة ويريد أن يرى أثر عمله على الوجوه¡ وما هي ردود الأفعال المتباينة¡ وهو في قرارة نفسه يريد أن تكون صفتها جميعاً إيجابية¡ فالكمال مطلوب والكل يسعى لتحقيقه¡ ولكلٍ نصيبه منه فيما يتعاطاه من عمل¡ فالصحفي في هذا الموضوع همه المجال الثقافي الذي يعمل فيه¡ وحقق فيه نجاحات لفتت النظر إليه¡ ويريد أن لا يخسر هذه النجاحات¡ ولهذا صار تركيزه على أن يقتنص الجديد الجاد والمثير لكي يقدم عملاً مميزاً.
الكاتب الصحفي الأرجنتيني (أورلاندو بارون)¡ قرأ بشغف للأديبين المبدعين الأرجنتينيين العالميين¡ خورخي بورخيس¡ وإرنستو سباتو¡ وأعجب مثل غيره بما قدماه من أعمال قيمة شُهدَ لها عالمياً¡ حيث الترجمات المتوالية على كتبهما لمختلف اللغات ومنها العربية¡ فهما بهذه المكانة ولاهتمامه بهما¡ عمل مجتهداً على أن يجري معهما حوار مواجهة¡ لكي يسطِّر في سجله الثقافي شهادة نجاح تتوق نفسه إليها بتأكيد رغبة خاصة/عامة¡ تكون منها الفائدة في مكتسبات تنزع إليها الذات الخاصة¡ فكان أن تمكن من أن يتفق معهما على الحديث الذي يكون فيه قطبان يتوخى منهما أن يعطيا الكثير من الفوائد الثقافية التي سيحصل عليها من يتابعهما من قريب أو بعيد «هكذا قبل الاثنان الدعوة إذاً¡ دون أي ادعاء أو تكلف¡ ولا أي حديث عن المقابل المادي¡ بالتأكيد لم يكونا معاً صديقين¡ ولم يدَّعيا أنهما كذلك في يوم من الأيام¡ لكن ثمة سبباً خفياً منحني هذه الفرصة المتواضعة والمميزة جداً¡ لأكون نقطة اتصال بينهما»¡ وبهذه الرؤية الشغوف لهذا الحوار¡ وما كان قد بحث فيه عن الطريق التي يمكن بواسطتها أن يجمعهما وما بذله من جهد واتصالات حتى حصل على ما يريد بشرط واحد «كل ما نص عليه الرجلان هو التزام واحد لا غير هو عدم الخوض في التجربة السياسية البيرونية¡ الدفاع عنها أو التصدي لها¡ ولا حتى الخوض في التوجهات السياسية الحالية كافة¡ وعندما أشعرت (سباتو) بهذا الشرط قبل به على الفور¡ رغم أنه أبدى حياله بعض الشك حين أردف قائلاً :طيِّبْ. إنّما عادة ما تعود السياسة لتدخل من النافذة¡ والتسلل من تحت دفّة الباب في الوقت الذي لا تنتظر فيه عودتها أبداً»¡ وهذا الكلام كان في العام 1974م¡ وهو العام الذي أجريَ فيه هذا الحديث الذي جاء منجماً وفي أمكنة مختلفة متقاربة حسب ما تمليه حالة ظروف الكاتبين¡ تناولا فيه موضوعات مختلفة مفيدة وشيقة تبرز فيها الثقافات العريضة والمتنوعة التي يتميز بها هذان المبدعان¡ ولم تترك الطرافة لهما الجدية المحضة. بل أطلّتْ على استحياء في بعض المواقف¡ ولم يترك المحاور فناً من فنون الأدب إلا وحاول أن يشارك الكاتبان في الحديث عنه¡ حتى يرى أنه استولى على الحصيلة التي يريدها¡ وبطريقة لا تخذلها اللباقة والاحترافية ينتقل بهما من موضوع إلى موضوع آخر وهما في جلسات أخوية تسودها المفاهمات العميقة المثرية للمتابع.
كان الحوار الأول في 14/ديسمبر 1974¡ وكانت جلسات الحوارات التي امتدت إلى سبع جلسات آخرها كانت في 15/مارس /1975 أي أنها جمعت بين أشهر من عامين بعيدين¡ ثم جمعت في كتاب صدر العام 1996¡ وترجم إلى اللغة العربية ونشر العام 2019 بترجمة الكاتب المغربي أحمد الوزيري¡ بعنوان (محاورات بوينس آيرس/ خورخي لويس بورخيس/ إرنستو سباتو) عن دار شهريار بالعراق¡ وقدم المحاور الكتاب موضحاً ما كان يريد من فائدة بجمع هذه الحوارات التي وصفها بأنها كانت جامعة بين التلقائية والسلاسة والعمق والقدرات التي تمثلت في ثقافة الكاتبين اللذين كانا يعطيان أي موضوع حقه لكي يكون في مكان الكمال¡ وهذا ليس غريباً على هذين العملاقين¡ وفي الحقيقة أن الكتاب هو في كل حوار يمثل كتاباً مستقلاً¡ حيث إن المحاور يركِّز على الموضوع المطروح على طاولة الحوار حتى يستكمله¡ فعندما يستمر مثلاً بورخيس في الحديث عن الرواية ويسهب¡ لا يقاطعه ولو تدخل سباتو طلب منه بأدب أنه سيكون له وقته الذي سيشْغله بجدارة مثلما كان للمتحدث بورخيس¡ فكان التوافق بين الاثنين في أخذ المساحات الوقتية الكافية لإبراز وجهة النظر لكل منهما¡ وكان أول حديث كما أشار المحاور لابد أن يبدأ من بورخيس لكونه الأكبر سناً¡ ميلاده 1899 سباتو 1911 فلعقدٍ من الزّمان وأكثر¡ لابد أن تكون هناك تجربة وأسبقية في الإطلالة على الساحة الثقافية¡ وبهذه وغيرها كان الحوار:
بورخيس: متى تعرّف كلّ منا على الآخر¿ ترى متى¿.. ما إن أستغْرق في عد السنين حتى أَتِيْه.. لكنّي أظن أنّ هذا حصل في بيت بيوي كازاريس¡ على هامش صدور روايته - وحدي والكون -¿
سباتو: لا يا بورخيس¡ هذا المُؤَلَّفُ صدر العام 1945 نحن بالفعل تعارفنا ببيت بيوي¡ لكن هذا تمّ قبل صدور ذلك الكتاب¡ حوالي سنة 1940 على ما أعتقد.
بورخيس: (وقد استغرق في التفكير): أجل يا لتلْك اللقاءات! كان بإمكاننا قضاء الليل كله ونحن نخوض في أحاديث الأدب أو الفلسفة.. كان عالماً مختلفاً.. أما اليوم¡ فالناس كما يقال تتحدث عن موضوعات بعيدة عن الإبداع.
بهذه البساطة كانت البداية¡ ولكنها تمثل الهدوء الذي يسبق العاصفة¡ وهي عاصفة ليست من النوع المدمر بل هي ستكون من الوسائل التي تبني وتعمِّر لما تُمثِّله من علامات تطوّرية فكرية وإبداعية يقوم بها عملاقان لهما أثرهما الثقافي الفعاّل عالمياً¡ وهذا ما ستتناول (اللمحات)بعضاً منه في القادم.
http://www.alriyadh.com/1803273]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]