أردتُ أن أستمرَّ في ذكر ما بدأته في المقال السابق عن: هدي النبوة في الفتوى¡ فوجدتني أكتب هذه الكلمة: «أيضاً» و»أيضاً» هذه وإن كنا نستعملها في النثر كثيراًº إلا أنها عند الشعراء غير مرغوب فيها¡ ومن الأحكام النقدية المعروفة عند النقاد¡ «أن بعض الألفاظ لا يطيقها الشعر» ولذلك قالوا: إن «أيضاً» لا تصلح في الشعر إلا في مواضع قليلة.
ومن اتصل بالكلمات حتى أصبح معها على حال من الإحساس «لا المعرفة» فإنه يؤثر كلمة على كلمة وإن تشابهتا في المعنى في أعين الكثير¡ ولربما طَرِبَ لتركيب على تركيبº كما يذكر الأصمعي: أنه سار مع أبي عمرو بن العلاء وخلف الأحمر إلى بشار بن برد¡ فسمعا منه قصيدته:
بكِّرا صاحبيَّ قبل الهجير
إنَّ ذاك النجاح في التبكير
حتى فرغ منها¡ فقال له خلف: لو قلت -يا أبا معاذ- مكان «إنَّ ذاك النجاح في التبكير»: «بَكِّرا فالنجاح في التبكير»º كان أحسن. فقال بشار: إنما بنيتها أعرابية وحشية¡ فقلت: «إنَّ ذاك النجاح في التبكير» كما يقول الأعراب البدويون¡ ولو قلت: «بَكِّرا فالنجاح في التبكير» كان هذا من كلام المولَّدين¡ ولا يشبه ذلك الكلام¡ ولا يدخل في معنى القصيدة¡ فقام خلف فقبَّل ما بين عينيه.
وأرى أن «أيضاً» هذه أبْحَرَت بنا بعيداً عن موضوعناº الذي هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم في فتواه¡ حيث ذكرت في المقال السابق بعض هديه وطريقته في الفتوى¡ فمن ذلك «أيضاً»: أنه كان يُوجد المخرج الصحيح للمستفتي¡ فمثلاً: إذا سأل المستفتي عن معاملة مالية فأجابه المفتي بأن معاملتك غير صحيحة لكذا وكذا¡ هنا -في الحقيقة- أجابه عن سؤاله¡ ولكنه إذا ارتسم خطى النبي عليه الصلاة والسلامº فإنه يستكمل الجواب بأنني أنصحك بأن تعمل كذا وكذا¡ وتكون بذلك قد حصَّلت غرضك بطريق جائز.
ومن الواقعات التي تدل على أن هذه كانت طريقته عليه الصلاة والسلام: أن بلالاً جاء بتمر برنيّ¡ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أين هذا»¿ فقال بلال: تمر كان عندنا رديّ¡ فبعت منه صاعين بصاعº لطَعْم النبي صلى الله عليه وسلم¡ فقال رسول الله عند ذلك: «أوّه ! عين الربا¡ لا تفعل¡ ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر¡ ثم اشتر به».
وإيجاد المخرج للمستفتي يدخل في عموم رحمته -عليه الصلاة والسلام-¡ ولقد كان يعامل المستفتين بهذه الرحمة بطرق شتى¡ وأنواع مختلفة¡ فمرة جاءه سائل وقد أصابه الخوف والهلع لدرجة أن يقول: هلكتُ يارسول الله. فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن حاله هذه¡ فذكر أنه أصاب امرأته في نهار رمضان¡ عند ذلك أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة ما وقع بأن يعتق رقبة¡ فقال: إنه لا يجد. فانتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدرجة الثانية بأن يصوم شهرين متتابعين¡ فقال أيضاً: لا أستطيع¡ فبينما السائل جالس عنده أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بعَرَق فيه تمر ــ والعَرَق: المكتل ــ فقال: أين السائل¿ فقال: أنا. فقال: «خذ هذا فتصدَّق به» فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله¿ فوالله ما بين لابتيها -يريد حرتي المدينة- أهل بيت أفقر من أهل بيتي¡ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه¡ ثم قال: «أطعمه أهلك».
وفي قصة مشابهة أن الرجل لما رجع إلى قومه قال لهم: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي¡ ووجدت عند النبي صلى الله عليه وسلم السعة وحسن الرأي.




http://www.alriyadh.com/1803636]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]