بما أننا في رمضان المبارك الآن فدعني أسألك: كيف تنتبه لوقت السحور¿ ربما تظل مستيقظًا إلى وقته¡ وربما تنام وتجعل المنبه أو الجوال يوقظك¡ أو يأتيك تنبيه من أحد الأهل¡ ولكن لو سألت مصريًا كبير السن هذا السؤال لأجاب ببساطة: المسحراتي طبعًا¿
المسحراتي كان رجلاً أخذ على عاتقه إيقاظ الناس للسحور¡ فيطوف السكك ومعه آلة عالية الصوت كالطبل¡ ويرافقه أحيانًا أذكار أو أناشيد إسلامية¡ ويصيح بصوت عال: "اصحى يا نايم.. وحّد الدايم". ولهم عبارات أخرى¡ والمهنة وُجدت في دول عربية أخرى مثل فلسطين¡ وفي المغرب كان يسمى النفّار¡ يحمل مزمارًا طويلاً ويوقظ الناس للسحور. مهنة انقرضت مع التقنية¡ والتقنية أبادت كثيرًا من المهن¡ منها مهن نبيلة لطيفة كالمسحراتي¡ ومنها مهن بشعة¡ ولا عليك إلا أن تسأل مراقب النفق.
في أوائل القرن الميلادي الماضي كانت هذه الوظيفة منتشرة¡ فيكون لنفق القطار جهازان لتسجيل الحضور بثقب البطاقة¡ فيثقب بطاقته من طرف النفق ثم يمشي للطرف الآخر البعيد ويثقبها¡ ثم يرجع ويثقبها ثالثة¡ وهكذا دواليك¡ إلى نهاية ورديته¡ ومهمته معاينة السكة والتأكد من أنها خالية من أي حطام وعوائق وإلا لقُتِل المراقب¡ وكان هذا كثير الحدوث خاصة مع بدائية تقنية أمان القطارات آنذاك مقارنة باليوم¡ وكان المراقب المسكين يسكن كشكًا خشبيًا ضئيلاً بجانب أحد الطرفين.
والمهن السيئة ترتبط كثيرًا بالقطارات في الماضي¡ فلكي تستقر سكة القطار يجب أن توضع فوق حصى¡ ولذلك عيّنت شركات القطارات أشد الناس فقرًا لهذه المهمة¡ فيأتون أفواجًا ومعهم حدائد طويلة¡ ثم يصيح القائد ويرفعون جزءًا من السكة الثقيلة¡ ويكنس آخرون الحصى أسفلها¡ عشرات الكيلومترات من السكة في ظروف جوية سيئة¡ مهمة لا نهائية¡ كأن تحاول أن تغرف كثيب رمل باستخدام إبرة.
وبينما هذه المهن مليئة بالخطر والقسوة¡ هناك مهنة حارس المنارة. لا خطورة فيها¡ ولكنها مملة¡ مُضجرة¡ تقتلك سأمًا! المنارات البحرية اليوم تضيء أنوارًا قوية باستخدام الكهرباء¡ لكن قبل ذلك كانت المصابيح تعمل بالوقود أو الزيت¡ ومهمة الحارس إذا أتى المغرب أن يفحص المصباح¡ ثم يعبئه بالوقود¡ ثم يشعله. لا يكفي هذا¡ لا يستطيع الحارس أن يذهب لبيته¡ بل عليه أن يمكث هناك طوال الليل ليتأكد أن النور لا يضعف أو يخمد. لذلك اضطر الحراس أن يسكنوا في المنارة¡ بل أتوا بأسرهم هناك!
على كثرة مشكلاتها إلا أنه في هذه الحالات يمكن أن نقول: شكرًا للتقنية.
http://www.alriyadh.com/1820565]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]