في مثل هذا اليوم الوطني يجب علينا تذكر الجوانب الإنسانية - وما أكثرها - لمؤسس هذا الكيان الشامخ الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - وروايتها للأجيال الجديدة ليستلهموا منها صفات القائد التي كان يتمتع بها هذا الرجل العظيم. فقد يتصور البعض أن رجلاً بحجم الملك عبدالعزيز الذي يحمل على أكتافه الكثير من الملفات الكبيرة والثقيلة والشائكة لا مكان لديه للعواطف والمشاعر. ولكن أثبت التاريخ أن الملك عبدالعزيز كان عبدالعزيز الإنسان قبل أن يكون عبدالعزيز القائد والزعيم¡ ما صنع هذا الالتفاف الكبير حوله من قبل شعبه¡ فهل يتخيل أبناء هذا الجيل أن تتأخر رحلة الملك عبدالعزيز لمدة ساعتين انتظاراً لامرأة كانت تريد السلام على جلالته¿¡ إن هذا التأخير لا يعني فقط تقدير الملك لمن يريد السلام عليه¡ بل يعني أن المرأة كانت تحظى باحترام وتقدير كبيرين لدى مؤسس المملكة.. وهي نفس السياسة التي سار عليها بقية ملوك المملكة حتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز¡ وولي عهده الأمين.
يقول الكابتن جوزيف جراند الطيار الأول للملك عبدالعزيز والذي عمل كطيار خاص لجلالته على طائرة (دي سي 3) خلال الفترة من 1945 إلى 1947م: "إن موقفا واحدا حصل في تلك الأيام أثبت لي بما لا يدع مجالا للشك أن الرجل السعودي يحترم المرأة¡ وهو عندما تأخرت إحدى رحلات الملك عبدالعزيز نحو ساعتين وعرفت السبب أن الملك عبدالعزيز تأخر بسبب السلام على امرأة كانت تريد السفر وتأخر احتراما لها.. بلدكم يحترم المرأه أكثر من أي دولة أخرى في العالم وهذه تعاليم الدين الإسلامي".
ولم تقتصر مواقف المؤسس - طيب الله ثراه - التي يرويها طياره الأول على هذا الموقف¡ بل لقد تفاجأ هذا الطيار وهو جالس في قمرة القيادة بدخول الملك عبدالعزيز عليه والربت على كتفه وشكره بطريقة عربية أصيلة دون تصنع أو طبقية اجتماعية اعتادها هذا الشاب ذو الثلاثة والثلاثين سنة في مجتمعه الغربي¡ يقول: "قد شعرت بالحزن والبكاء وتذكرت مواقف الملك عبدالعزيز التي لا تنسى حينما دخل علي داخل كابينة الطائرة وأمسك بكتفي وشكرني¡ ولم أصدق لحظتها أن شخصية بحجم الملك عبدالعزيز تقدم لي الشكر بهذه الطريقه الأخوية¡ حتى أن علاقتنا مع بعضنا تطورت يوما بعد يوم حتى أصبحتُ أرافقه في مجالسه الخاصة¡ وأشعر بالفخر والاعتزاز وقتها ومازلت".
لقد أحدث هذا التعامل الإنساني تأثيراً بعيد المدى في نفسية هذا الشاب جعلته يعشق المملكة العربية السعودية وشعبها.
وإذا انتقلنا إلى الاتحاد السوفيتي وقتها وجدنا قصة أخرى توثق إنسانية هذا المؤسس العظيم. فقد تنبه بقلبه الإنساني لأنين خديجة خانم ودموعها ووقف يسأل عن أمرها وكيف يمكن مساعدتها¡ فمن هي خديجة خانم¿ وما قصة الملك عبدالعزيز معها¿.. كانت خديجة زوجة كريم حكيموف سفير الاتحاد السوفييتي في المملكة في عشرينات القرن الماضي¡ وقد زاره الملك عبدالعزيز في منزله بجدة. تقول خديجة: "الملك عبدالعزيز ذلك الزعيم الذي ترتعد فرائص الرجال خوفاً منه مهابة¡ كان عطوفاً طيب القلب¡ أتذكر آخر زيارة له وما دار خلالها¡ جلس زوجي مقابل الملك عبدالعزيز¡ فانهمكا في حديث ودي تخللته أسئلة سمعت جلالته يطرحها¡ وأغلبها يتعلق بأوضاع المسلمين في الاتحاد السوفييتي وأحوال البلاد والمشاريع الاقتصادية الجديدة التي تنفذ هناك.. كنت في الغرفة المجاورة¡ أحاول متابعة الحديث بين جلالته وحكيموف¡ لقد كنت أحاول التغلب على حزني ودموعي¡ وأحاول كبت ما في نفسي¡ لكنني وفي لحظة تغلبت فيها العاطفة على العقل لم أتمكن من السيطرة على ما كنت أقاومه فانفجرت باكية وبصوت مرتفع.. وقد سمع الملك عبدالعزيز ذلك فسأل حكيموف بصوت مرتفع وبتأثر واضح: "يا حاج عبدالكريم إنني أسمع نحيباً فما سببه¿ لعله خير إن شاء الله¿ رد حكيموف: "إنها زوجتي يا طويل العمر¡ لقد وافت المنية ولدي الصغير شامل ليلة أمس. بعد إصابته بمرض الزحار الذي أودى بحياته".. فهب الملك واقفاً واستأذن الدخول إلى جثمان شامل مقترباً منه وردد مرات عدة¡ "يرحمه الله¡ يرحمه الله¡ وألهمكم شأنه الصبر والسلوان".. كانت لحظة لا يمكن وصفها¡ شعرت كم أن هذا الرجل الذي اهتزت من مهابته كثبان الجزيرة العربية وصحاريها متواضع غاية التواضع¡ إنه تواضع المؤمن والقوي¡ لقد أمر - رحمه الله - بإقامة عزاء رسمي¡ وأمر أن يدفن ابننا شامل في مكة المكرمة"¡ لقد كان لهذا الموقف الإنساني كسابقه تماماً عميق الأثر في قلب هذه الأم المكلومة التي مازالت ذاكرتها تحتفظ به¡ وتقدره للمؤسس وللوطن.
http://www.alriyadh.com/1843256]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]