«تمتاز الأنا في نصوص الحداثة بأنها بلا ذاكرة ولا ذكرى¡ فهي لا تتحدث عن واقع¡ ولا عن فردوس مفقود¡ ولا عن أمكنة أو أزمنة. إنها معلقة خارج المكان وخارج الزمان¡ هي أنا بلا بدء ولا منتهى»
(ح/ناظم)
لعل ميزة الشعر التي يتفرد بها هي حالة المباغتة التي يستلب فيها بتلقائية من سيكون تحت سلطته الأبوية كابن له يتربى في كنفه¡ يؤدي ما عليه من واجبات تجاه أبيه في طواعية لا متناهية¡ إذ سيسير حيثما يوجهه حدسه الشعري معبراً عن مكنونات الذات التي تأتت في دائرة الموهبة التي هي في الأصل من باغت المعني بالشعر بالتلقائية منذ البداية¡ وكل شاعر في العالم لم يكن يعرف أنه سيكون شاعراً إلا بعد أن فاجأته ومضة إشارة الشاعرية ذات وقت لم يكن محدداً¡ ولكنه أمسك به ليقول ما يرى أنه يعبّر عن حالة آنية حتمت عليه أن يفرج عنها بالشعر في خروج إلى الدائرة الأوسع المستوعبة للصور الإنسانية في حالات الأفراح والأحزان¡ وما يعمل في النفس الإنسانية من تفاعلات هي جوهر ما يدل على معنى الإنسان¡ بالرغم من أن من يرى أن هناك «كارثة انحسار قراءة الشعر¡ متسائلاً أهي جزء من انحسار المقروء أمام المرئي¿ أم هي علة تكمن في الشعر أولاً وفي الوضع العالمي لتراجع القراءة ثانياً¿ وهل الأمل بإنعاش هذه العلاقة واقع على عاتق الشعراء¿ أم على عاتق التلقي والمتلقين¿» هذا ما وجهه د. حسن ناظم كسؤال إلى الشاعر فوزي كريم الشاعر العراقي الشهير الذي اختار المنفى ليمارس كتاباته وهواياته الأخرى¡ ذهب إلى لبنان سنوات ثم كان الاستقرار -في لندن- المنفى الذي كان فيه منبع عطاء متنوع الألوان¡ تمثلت ألوانه في الشعر¡ والنقد¡ والموسيقى¡ والرسم¡ والترجمة¡ وقد خص ناظم الشعر في سؤاله فقطº لكون الشاعر فوزي كريم ينافح عن الشعر الحقيقي ويراهن مصراً على بقائه وازدهاره متى ما كان -الشعر- مهتماً بالإنسان ومعاني الإنسانية¡ ويكون رد الشاعر فوزي كريم الذي كان تركيزه على حالة بدأت في الستينيات وخاصة عند الشعراء العراقيين الذين كانوا يمثلون الطليعة بالنسبة للحداثة الشعرية بعد نازك الملائكة وبدر السياب¡ مثل عبدالرزاق عبدالواحد وسامي مهدي¡ وغيرهم¡ ولكنه توقف عند (عبدالرزاق/ سامي)¡ متكئاً على حصر شعرهما في مواكبة أطروحات الأيديولوجيا السياسية وخاصة نظرتهما التي يصفها بأنها تنفي كل شعر لا يندرج ضمن المسلك الذي يمثلانه مستفيدين منه مراكز عملية وماديةº حيث كل منهما يعمل لذاته الخاصة دون أن يكون للآخرين نصيب في المكان خشية المزاحمة¡ مدرجاً شعرهما تحت تعريف ما يشبه التهريج وانعدام الجدية¡ ولا يكون مبتعداً عن ذكر الأسماء في مواطن عديدة من دراساته وكتاباته حول الشعر.
جاء في بعض من جوابه -كريم- على السؤال الموجه من حسن ناظم المدون سابقاً ما يوضح رؤيته عن انحسار القراءة للشعر التي تظهر في مواقف عديدة بشكل يمثل الشمول: «الشعر الجدي مثل الموسيقى الجديدة¡ هو برج تأمل¡ ولا يَقْصُدُ برجاً مثل هذا إلا قلة من الناس¡ هناك موسيقى أخف وزناً وتخص النسبة الكبرى من الناس¡ والجديين ضماناً للشعر حصة كهذه¡ ذلك الذي يطرب ولا يذهب بعيداً في مغامرة التأمل والكشف عن الزوايا الخفية نصف المضاءة من النفس¡ مع الشعر الجدي لم يتم انحسار القراءة للحد الذي يلفت الانتباهº لأن قراء محدودين منذ وجد انحسار القراءة ملحوظ مع الشعر والمطرب عامة بسبب الفيض في وسائل المتعة والتسلية المرئية خاصة التي صارت تنافسه»¡ وحسب تجربته في منفاه الإنجليزي واطلاعه على ما يصدر من الدواوين الشعرية¡ إضافة إلى طباعة دواوين الشعراء المتقدمين منهم ممن لهم مساهماتهم في التجديد الشعري مثل (ت. س إليوت) التي تعاد باستمرار أكثر من السابق¡ وهناك مجلات تعنى بالشعر في أميركا تصل الى أعداد كبيرة في التوزيع والعدد¡ فيما يشبه اليقين والثقة يقول: «دُور النشر (عالمياً/ عربياً) تطبع الشعر¡ ولكن تفضل الكتاب السياسي والديني مثلاً قبل سنوات¡ أما من اختلف فهم الشعراء والشعر فالتطرف السياسي باتجاه الموقف العقائدي الأعمى انسحب إلى حقل الثقافة الأدبية والشعر خاصة¡ صار الشاعر صوتاً داعياً¡ فأمسيات شعرية لنزار أو درويش ومظفر النواب صارت تشكل ما يشبه المظاهرات السياسية بآلاف الناس¡ وساعة انحسار الحماس العقائدي المؤدلج ستفرغ قاعاتهم يوماً من الناس -هي فارغة الآن-». ويجي دور الشعر الحالي الحريص على وسائل الإعلام والتواصل بألوان مختلفة الأشكال والمضامين كما القالب المصنوع بعيون موحدة تصب في محيط الذات خاصة دون الآخر المعنِي بالشعر منذ الأزل¡ وهو ما يتمثل في حاجات الإنسان بـ(أنسنة الشعر) وتكون هذه في الشعر الصادق فنياً والذي تمليه الروح العميقة لدى الشاعر وقارئه على حد سواء¡ ويعطي ناظم صورة مؤطرة لأنسنة الشعر التي يعنيها¡ فيما يخاطب به الشاعر فوزي كريم كنموذج: «الشاعر الذي يبحث عن حقيقة وليس الحقيقة» هذه المرة يدخل زمن آخر في لحظات روحية شعرية تخرج بذات الشاعر من إسار الزمن التعاقبي¡ أحسست بزمن الشاعر فوزي حين استطاع أن يجعلني معه في قصيدة (نداء الأمواج)¡ القصيدة سرد عن دقائق قضاها الشاعر ماشياً من -باب المعظم-إلى -الميدان- كتبها عام 1983 في لندن¡ قرأت نصها وكنت للتو أحاول فهم تحليلك الخاص لقصيدة (وطني آخر بلغات عديدة) في محاورة الزمن التعاقبي¡ وأدخلتني في زمن آخر. زمن تسْبَح فيه جميع النصوص المبدعة مهما كانت¡ زمن أحس بهوائه ورائحته في نصوص السياب¡ وبورخيس والبريكان¡ وماركيز رغم اختلاف العوالم والأساليب واللغات».
الكتاب بعنوان: (أنسنة الشعر/ فوزي كريم/ مدخل إلى حداثة أخرى) اشتمل على خمسة فصول وهذه الطبعة الثانية 2020 مزيدة بتوطئة وتأبين واستذكار -ستبقى آخر الغجر- استذكار الغائب الذي لا يغيب -برزخ العزلة مقابل «الشيوعي الأخير» و»البعثي الأخير» مع ملاحق أعلام ومصادر¡ والرسائل الأساس التي تكونت منها الحوارات التي بُنِيَ الكتاب على أساسها كقواعد وروافد.
حسن ناظم¡ عراقي أكاديمي تبوأ مراكز ثقافية في العراق «وزير الثقافة حالياً» صدرت له مؤلفات عديدة وترجمات منها -شعرية العابث- الشعرية المفقودة -النص والحياة- مفاهيم شعرية¡ ودراسات متفرقة في المجلات والدوريات المتخصصة العربية/ العالمية.
http://www.alriyadh.com/1846804]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]