احترام التخصص هو منهج الصالحين من الصحابة والتابعين ومن نحا نحوهم في كل عصر¡ وقد أخلَّ به أهل البدع في كل عصرٍ وزمانٍ¡ ومن أكثر الناس إخلالاً به الخوارج فقد تسوّروا على الكلام في مسائل دينية شديدة الأهمية وهم سفهاء الأحلام¡ حدثاء الأسنان¡ وتجاهلوا كبار علماء أعصارهم من أهل الخبرة والتخصص..
ليس من المعهود أن يكون الواحد من الناس ذا خبرةٍ في كل شأنٍ من شؤون الحياةº وذلك لكثرتها وتباين بعض مجالاتها¡ وتشعُّب الشُّعَب بها¡ فاقتضت الحكمة الإلهية أن وجّهَ من شاء إلى ما شاء من أنواع المعارف والحِرَف¡ وفتح عليه آفاق التحصيل فيما توجّهَ إليه¡ وفي هذا تجسيدٌ للتكامل الحيوي الذي تقوم عليه حياة المجتمعات¡ كما أنه من مظاهر قسمة الله الأرزاق بين عباده¡ فالعلوم والمِهن من ضمن الأرزاق¡ وإذا كان الأمر هكذا فمن الأهمية بمكان احترام التخصصات¡ والحرص على توسعة مجالاتها حسب الإمكان¡ ولي مع ذلك وقفات:
أولاً: الشرع الحنيف يُقرِّرُ احترام التخصص¡ ويظهر ذلك جيداً في الأخذ بقول أهل الخبرة والمعرفة في كثيرٍ من الأمور كالجراحات¡ وتقدير المقادير¡ وخرص المحاصيل¡ والأخذ بقول القافة في لحاق النسب¡ وسؤال أهل الخبرة عمّا يُعدُّ عيباً في المبيع وما لا يُعدُّ كذلك¡ واعتماد أقوال الأطباء فيما يتعلق بالأمور التي يُؤثِّرُ فيها المرض في الحكم الشرعي¡ واعتماد آراء أهل الخبرة في هذه الأمور المهمة والحكمُ على مقتضى ما يُقرِّرون ما هو إلا اعتدادٌ بما اكتسبوا من الخبرة واحترام لتخصصاتهم التي استغرق الاشتغال بها أوقاتهم¡ وما كان لغيرهم أن يصل بين عشية وضحاها إلى ما وصلوا إليه طيلة اشتغالهم بالتحصيل¡ ففي الرجوع إليهم اختصارٌ للوقت¡ وتوفيرٌ للجهد.
ثانياً: لم تقتصر أهمية التخصص وشرعيته على الأخذ برأي أهل المعارف في مجالاتهم¡ بل تعدَّت ذلك لتشمل الحجرَ على غيرهم¡ والأخذ بيده حتى لا يتسوَّر على اقتحام مجالٍ لا خبرة له فيه¡ وأمثلة ذلك كثيرة تشمل علوم الدين¡ وغيرها من العلوم¡ أما علوم الدين فلا يُؤخذُ فيها إلا بقول العلماء الراسخين¡ ولا يجوز أن يتكلم فيها غير أهل التخصص والمعرفة¡ وأدلة ذلك مشهورة¡ وقد علم تحريم القول على الله بغير علم¡ وكونه من أشنع الأوزار¡ واقترانه بأكبر الكبائر في قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)¡ وإذا نظر إلى ما اعتمده العلماء من ضوابط رواية الحديث¡ وشروط الاجتهاد¡ وما يلزم أن يُحصِّله العالم لكي تجوز له الفتوى تبين أن العلماء لا يأبهون في فنون العلم بكلام من لم يُمارسه¡ وأما العلوم الأخرى فهي كذلك لا يجوز للجاهل بها أن يُمارس تطبيقها¡ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: «من تطبَّبَ ولم يكن بالطبِّ معروفاً فأصاب نفساً فما دونها فهو ضامن»¡ أخرجه أبو داود وغيره واللفظ للبيهقي.
ثالثاً: حماية الشرع والنظام للتخصص نابعة من كون ذلك كفيلاً بتحقيق المصالح ودرء المفاسد¡ ومقتضى ذلك أن التخصص الذي يسيغ مزاولة القول والفعل في مجاله هو الواقعي المستند إلى اكتساب المعرفة وحصول الخبرة¡ والمؤهلاتُ علاماتٌ يُستدلُّ بها على ذلك¡ ومن لم يكتسب المعرفة المطلوبة¡ ولم يدرس في المجال المعين¡ وحصل على مؤهلٍ بطريقةٍ غير نظاميةٍ¡ فلا عبرة به¡ ولا يجعله ذلك في حِلٍّ من مزاولة المهنة المشترط فيها ذلك المؤهل¡ وهو مخالفٌ للشرع والنظام فيما يفعل¡ وإذا اعتمد على ذلك المؤهل الوهمي¡ فتكلَّمَ في الشرعيات فقد اقتحم باب القول على الله بغير علم¡ وإذا كان مؤهله الوهمي مهنياً¡ فتطبَّبَ به¡ أو مارس الطِّبَ أو نحوه فقد بالغ في التلاعب بالنفوس والأموال¡ وكفى ذلك استهتاراً وتبلُّداً في المشاعر.
رابعاً: احترام التخصص هو منهج الصالحين من الصحابة والتابعين ومن نحا نحوهم في كل عصر¡ وقد أخلَّ به أهل البدع في كل عصرٍ وزمانٍ¡ ومن أكثر الناس إخلالاً به الخوارج فقد تسوّروا على الكلام في مسائل دينية شديدة الأهمية وهم سفهاء الأحلام¡ حدثاء الأسنان¡ وتجاهلوا كبار علماء أعصارهم من أهل الخبرة والتخصص¡ وأول من أظهر هذا الحرورية¡ فقد تجرّؤوا على كبار علماء الصحابة¡ وبقية المهاجرين والأنصار ممن شهدوا تنزيل القرآن الكريم¡ وصحبوا النبي صلى الله عليه وسلم¡ وشُهد لهم بالعلم والفضل والفقه¡ فناصبوهم العداء¡ وقاتلوهم¡ وكفَّروهم بدلاً من أن يجلسوا إليهم¡ ويتعلموا منهم¡ ولكن الله أحق الحق وأبطل الباطل¡ ومحق تلك الشرذمة المارقة¡ فلم يُذكروا إلا مقرونين بالذم¡ ولا يُتطرَّقُ إلى أخبارهم إلا من باب تسطير صنيعهم الشنيع¡ وعلى عكس ذلك رفع الله قدر علماء التابعين الذين احترموا علماء الصحابة¡ وعرفوا لهم أقدارهم¡ ونهلوا من معينِ علومهم فكانوا من سادة المسلمين¡ وما زال المسلمون ينقلون فقههم ويثنون عليهم خيراً.
http://www.alriyadh.com/1851602]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]