إنّ المجتمع الإنساني يأسر بعضه بعضاً¡ ويأتم فريق منه بفريق¡ وتتبع طائفة منه آثار أخرى¡ وهذي الحال تجعل أصحابه يُعذرون¡ خاصة عند الحكماء الذين يرون خيريّة الإنسان ويعتقدونها كسقراط وتلميذه أفلاطون¡ فهذا الغربي الذي أتى ما أتى¡ وركب ما قبح¡ دفعته روح عصره إلى ما كرهنا منه¡ وزيّنت له ما كان في الغابر حراماً عليه¡ فواجبنا تجاهه البيان¡ وفريضتنا معه الإيضاح..
لكل شيء قصة¡ ولكل حادثة حكاية¡ ولكل فكرة رواية¡ وما يرى الإنسان من فكرة ذائعة¡ ومذهب منتشر¡ فخلف ذيوعهما قصة طويلة¡ أحداثها مهولة¡ تكبّد الداعون إليها المشاقّ والمهالك¡ وما يجهل المرء من قصص الأشياء وحكاياها¡ يدلّ على تقصيره فيها وغفلته عنها¡ وما يجري في الغرب هذه الأيام¡ خاصة أوروبا¡ من استسهال سبّ الرموز الدينية والتطاول عليها فشيءٌ من تلك الأشياء¡ له قصة وحكاية¡ نشأ ضعيفاً هزيلاً¡ يُحاربه رجال الدين وأهله¡ ويستعيبه الخاصة والعامة¡ ثم ما لبثت الأحوال أن تحوّلت فقوي الضعيف ومكُنَ¡ وإن كره المسلم ذلك¡ الهزيل.
إن الغرب¡ كما يتحدث المؤرخ كارل بيكر¡ نسي الدين جملة¡ وحلّ مكانه العلم عنده¡ فأضحى غالبية الغربيين ينتظرون من العلم ما كان الدين في ماضيهم يجيب عنه¡ فصاروا إلى التقليل من شأنه والحطّ من قيمته¡ وسرى هذا في العقل الغربي الحديث¡ وآمنت به جموع الناس¡ فكان روح العصر وطابعه وسياقه الغالب¡ فانزوى الدين وغابت رموزه¡ حتى صار من المستهجن عند طوائف كثيرة منهم أن يُتحدّث عن الدين وتُذكر دعوته وسيرة رجاله¡ وفي جو مشحون كهذا الجو لا يُستغرب أن تُعاب الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام¡ ولا يُتعجب من سكوت الناس عن عائبهم ومنتقصهم¡ فالناس في كل مكان وزمان أبناءُ ما يشيع وينتشر ويذيع ويُهيمن.
ابتدأ إعداد هذه الطبخة للمجتمع الغربي تقريباً منذ بدايات القرن السابع عشر¡ الذي ظهر فيه نقد الكتب المقدسة على يد إسبينوزا¡ واستمرّ هذا التيار بالتوسع والامتداد¡ وانتهى الأمر بالإنسان الغربي أنْ نفض يده من الدين¡ وازداد بعدُه عنه¡ فاستغنى بالعقل¡ وجعله سيده في بحثه ونظره¡ وأضحى مَنْ لا يُؤمن بهذه الروح الجديدة كدُرَيد بن الصّمّة مع قبيلته (غَزِيَّة):
فلمّا عَصَوني كنتُ منهم وقد أرى... غوايتَهمْ وأَنّنــي غيـرُ مُهْتدِي
وهل أنــــا إلا مـن غَزِيّةَ إن غــوتْ... غويتُ وإن ترشُدْ غزيّةُ أرشدِ
إنّ الغربيين¡ الذين تحدّث عنهم بيكر في (المدينة الفاضلة)¡ وهو مؤرخ أميركي¡ جنحوا إلى العلم بعد صراعهم مع رجال الدين¡ وزاد إقبالهم على العلم شيئان¡ الأول: ما شاهدوه منه¡ ووجدوا من حلوله واكتشافاته¡ والثاني: ما رأوه من حملة نقدية صارمة للتصورات الدينية التي كانت ملأ السمع والبصر في زمن مضى¡ فانقاد الإنسان الغربي إلى الخضوع والاستسلام لهذه الروح الجديدة¡ ولم يعد في مقدوره أن يسبح ضد هذا التيار الجارف¡ فزادت تلك الحال¡ وأقصد تخوفَه من مواجهة تلك الروح¡ من توسع هذه الموجة المحاربة للدين ورجاله¡ فصار ما كان جرماً في الماضي¡ يُعاب به صاحبه ويُشان¡ موكولاً إلى حريته¡ إن شاء اقتحمه وإن شاء تجنّبه¡ ولم يجد من أهل ثقافته مَنْ يردّه عنه¡ ويقف في طريقه دونه¡ فخاض فيه ما خاض¡ وتلك هي الحال مع كل فكرة تسود¡ ورأي يفشو¡ ولم يعد مع نفوذها حق للإنسان -الذي تدبّر تاريخ البشر وهُدي للحكمة فيه- أن يعجب مما يرى ويرتاب مما يسمع¡ وبقي عليه أن يُناهض ما استطاع هذا الإسفاف¡ ويُحذّر بالحسنى من خطره¡ ويتعاون مع غيره لوقفه.
إنّ المجتمع الإنساني يأسر بعضه بعضاً¡ ويأتم فريق منه بفريق¡ وتتبع طائفة منه آثار أخرى¡ وهذي الحال تجعل أصحابه يُعذرون¡ خاصة عند الحكماء الذين يرون خيريّة الإنسان ويعتقدونها كسقراط وتلميذه أفلاطون¡ فهذا الغربي الذي أتى ما أتى¡ وركب ما قبح¡ دفعته روح عصره إلى ما كرهنا منه¡ وزيّنت له ما كان في الغابر حراماً عليه¡ فواجبنا تجاهه البيان¡ وفريضتنا معه الإيضاح¡ وإذا كان الدين يعذر بالجهل¡ ولا يُحاسب المرء عليه¡ فالجاهل الذي دفعته جماعته¡ وألزمته روح عصره¡ ولم تنهه طائفته¡ أولى بالمعذرة¡ وأجدر بالبيان¡ وأحرى بنا أن نحرص عليه ونبذل كل جهد في كسبه.
وليَذكرْ كلُّ إنسان نفسه حين تُحيط به فكرة¡ وتستولي على جماعته¡ فلا يسمع غيرها في بيئته¡ ولا يجد خلافها مع قومه¡ فيدخل فيما دخلوا فيه¡ ويُؤمن بما آمنوا به¡ ثم تراه يرجو بعد ذلك ممن حوله أن يعذره¡ ولا يُثرّب عليه¡ فليكن قانونك الذي ترجو أن تُعامَل به هو قانونك الذي تُحاكِم عليه¡ وليكن شعارك الذي تستظل تحته¡ ونهجك الذي تعتصم به¡ قوله عليه الصلاة والسلام حاكياً عن نبي من الأنبياء¡ ضربه قومه فأدموه¡ أنه قال:" اللهم اغفر لقوميº فإنهم لا يعلمون"¡ فإذا كان هذا النبي الكريم قد عذر قومه¡ وهم عشيرته وأهل العلم به¡ ودعا لهم مع خطئهم معه¡ فأن يَعذر مَنْ لا يعرفه ويجهل كبير قدره ويدعو بالمغفرة له¡ أقرب وأجدر وأولى.




http://www.alriyadh.com/1852056]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]