منازعة الأمر أهلَه¡ ومن هذا المنطلق ينطلق كثير ممن يشق عصا الطاعة ويخالف الجماعة¡ ويتظاهر بأنه يحرص على المنفعة العامة¡ فيشاغب على أولياء الأمر¡ لا لصلاحٍ ينطوي عليه¡ ولا لاستقامةٍ ينويها¡ بل ليس له من الدوافع إلا الطمع في استغواء بعض رعاع الناس
خلق الله الناس من أبٍ واحدٍ وأمٍّ واحدةٍ¡ ولكن ميَّزَ بعضهم على بعض بما شاء من المزايا المادية والمعنوية والخِلْقية والخُلُقية¡ ومن شأن من حظي بشيء من تلك المزايا أن يشيع ذكره¡ وينبل قدره¡ ويسير صيته بين الناس¡ فيكثر ذكره على الألسنة¡ ويشتهر اسمه بين الناس¡ لكن الشهرة وتردد الاسم على الشفاه مظهرٌ من مظاهر التميُّزِ قد تصاحبه وقد تتخلّف عنه¡ وليس بينهما تلازم¡ وكم من مشتهرٍ بما ليس ميزة¡ وكم ذي منزلة عظيمة لم يشتهر ولم يُتناقل اسمه على ممرِّ التاريخ¡ والدليل على ذلك أن أكبر منقبة يمكن أن يتحلّى بها إنسانٌ أن يصطفيه الله لرسالته¡ ومع ذلك فمن الرسل من لم يسمَّ لمن بعده من الأمم¡ ولا ينقص ذلك من شموخ منزلتهم¡ قال تعالى: (وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ)¡ وهذه اللفتة لم ينتبه إليها من أُشربت قلوبهم حبّ الظهور وأولعوا بالشهرة¡ فتخيَّلوا أن الشهرة مطلب مرغوب فيه لذاته¡ وأن مطلق الذكر مزية من شأنها أن تُلتمس ويُحتال في تحصيلها¡ وهذا غلط¡ فالشهرة الزائفة غير المستندة إلى فضائل وأعمال ومواهب لا تخلو من أن تكتسب بإحدى المخالفات التالية:
الأولى: مخالفة المتقرِّر المعلوم في الأمور الفكرية والعلمية والعقدية¡ ومن هذا القبيل شهرة من اشتهر من أهل المقالات والفرق الضالةº فإنهم نجموا بآراءٍ شاذةٍ خالفوا بها ما عليه سواد الناس¡ فكان ذلك مدعاة لتشديد النكير عليهم¡ والوقوف في نحورهم لدحض ما أثاروه من الشبهات فأكسبهم ذلك شهرةً¡ لكنها شهرةٌ سيئة¡ لو أنهم قنعوا بخمولهم لكان خيراً لهم منها¡ ففرقٌ شاسعٌ بين أن يكون المرء من عامة المسلمين مغموراً تابعاً¡ وفي ذلك سلامة دينه وعرضه¡ وبين أن ينبغ بكلمةِ باطلٍ يشتهر بها ويصير بها متبوعاً¡ وفيه قدحٌ في دينه ووصمةٌ في عرضه¡ وقد أحسن بعض السلف التعبير عن هذا حين قيل له: كنت رأساً¡ وكنت إماماً في أصحابك¡ فخالفتهم¡ فصرت تابعاً! فقال: إني أن أكون تابعاً في الحقِّ¡ خيرٌ من أن أكون رأساً في الباطل.****
الثانية: مخالفة الأعراف والقيم السائدة في المجتمع¡ والحطُّ من شأن عادات الناس وموروثاتهم التي هي من جنس الحسن والمباح¡ ومعلومٌ أن أعراف المجتمعات جزءٌ من هويتها التي تعضُّ عليها بالنواجذ¡ وإلف الناس لها طبعيٌّ يكاد يكون من قبيل الضروريات التي لا تحتاج النفس إلى التفكير لأجل استحضارها¡ فمن رفع عقيرته في مجتمعٍ مَّا بما ينافي أعرافه اشرأبَّت إليه الأعناق استغراباً لما جاء به¡ وذاع أمره¡ ولا يخلو من يستهتر بقيم الناس وأعرافهم من أن يكون متعالياً عليهم زاعماً تميزَ ما جاء به على ما استقرَّ عند الناس¡ وشُنعةُ هذا أكثر من شُنعةِ لباس الشهرة المنهي عنه في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لبس ثوبَ شهرةٍ في الدنيا¡ ألبسه الله ثوبَ مذلةٍ يوم القيامة¡ ثم ألهب فيه ناراً» أخرجه ابن ماجه وغيره¡ وحسنه الألباني.
الثالثة: منازعة الأمر أهلَه¡ ومن هذا المنطلق ينطلق كثير ممن يشق عصا الطاعة ويخالف الجماعة¡ ويتظاهر بأنه يحرص على المنفعة العامة¡ فيشاغب على أولياء الأمر¡ لا لصلاحٍ ينطوي عليه¡ ولا لاستقامةٍ ينويها¡ بل ليس له من الدوافع إلا الطمع في استغواء بعض رعاع الناس¡ بحيث يظنون به ظناً حسناً¡ ويكتسب الشهرة والسمعة عندهم¡ وذلك معروفٌ أنه من وسائل أهل الطمع في الدنيا¡ وله نماذج معروفة في التاريخ¡ وقد تفاقم هذا الأمر في عصرنا هذا مع شيوع استعمال الناس لوسائل التواصل الاجتماعي¡ وأصبح التهريج وإثارة الفتن بضاعة رائجة يكتسب بها المغرضون كثرة المتابعين والمعجبين¡ ولا يُبالون بما نجم عن ذلك من الأضرار الفادحة والمفاسد المتكاثرة¡ المهم عندهم أن ينالوا مقصودهم من الشهرة.** ** **
رابعاً: التطاول على أهل الأقدار الرفيعة من أهل العلم والجاه¡ فكم من أجنبيٍّ عن تخصصٍ مُعيَّنٍ تعرَّض لأئمة ذلك الشأن ليكتسب الشهرة من خلال ذلك¡ ومن يحاولون نيل الشهرة بهذا السبب يرون أن مماحكة المشاهير ومصاولتهم تصنعُ مجداً¡ ولا مانع لديهم من أن يكون ثمن ذلك بذل عرضه لأسنان الماضغين¡ ومنهم من لا يُخفي هذا السرّ فقد نُقِلَ عن بعضهم أنه قال: هجوت جريراً فأعرض عني ولو هجاني لكنت أشعر الناس¡ فهذا لا مشكلة عنده في أن يهجوه جرير الشاعر المشهور - ولو هجاه لمزَّقَ عرضه - مقابل أن ينال وسامَ مصاولةِ فحلٍ كبيرٍ كجرير.




http://www.alriyadh.com/1854322]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]