لماذا رأى أستاذ سعودي أن في كتب تخصصه ما يستحق الترجمة¡ وذهب في هذا الميدان العسر¡ الذي يكون التأليف أسهل منه وأخف¡ ورأى آخر أن رجال تخصصه¡ الذي جاء به وشغل وظيفة لأدائه¡ لم يؤلفوا ما يستحق الترجمة¡ ولم يُخرجوا لأهل العلم ما يصلح للاهتمام¿..
من الأخطاء حين الحديث عن الترجمة¡ وهي نافذة العقل إلى المعارف¡ أن تُجرى المقارنة بين الدول الأوروبية والعربية¡ وينسى المتحدث أن يُجري المقارنة بين الدول العربية نفسها¡ ويسعى في معرفة الفروق بينها: ما نسبة ترجمة المصريين مثلاً إلى ترجمة غيرهم¿ وما نسبة ترجمة أهل هذه البلاد إلى ترجمة العراقيين¿ هذا هو السؤال الذي يجب علينا أن نُوجّهه ونبذل قُصارانا في جوابه¡ ونشغل أنفسنا به¡ حتى نخلص منه إلى ما نريد¡ ونعرف المكان الذي يحتلّه كل بلد عربي في قائمة الترجمة¡ وما الرقم الذي اتّخذه لنفسه منها بين إخوانه¿
أقول هذا¡ أيها السادة والسيدات¡ لأمرين: أولهما أنّ مقارنة بلد عربي بأُوروبي تُصيب الإنسان بخيبة أمل كبيرة¡ ولسنا في حاجة إلى زيادة الخيبات على أنفسنا. وثانيهما أنّ الحافز للحركة¡ والداعي لها¡ حين تكون المقارنة ببلد عربي آخر يكون أقوى وأشد¡ ويكون بلوغه¡ والقرب منه¡ أسهل علينا وأيسر لنا¡ ونستطيع خلال فترة من العمل الجاد أن نبصر ثمار جهودنا¡ ونسعد بما قدمناه حين نرى أنفسنا قد قاربنا أن نكون كإخواننا في مشروع الترجمة¡ أو تقدمنا عليهم فيها.
وجديرٌ بنا أن تقودنا المقارنة بين البلدان العربية في الترجمة إلى المقارنة بين أهل كل بلد¡ ودورهم فيها¡ ما دامت المقارنة لنا سنةً في كل شيء تقريباً فلتَبقَ كذلك في نظرنا إلى الأفراد أيضاً¡ حتى تُعرف جهود كل فرد¡ ويُدرى أين يقف بين أصحابه في رَتْل المترجمين وجماعتهم¿ وإذا كان مطلوباً من كل أمة عربية أن تقيس نفسها بغيرها من العرب في الترجمة¡ فمطلوب منا أن نقيس أفرادها بعضهم ببعض¡ وننظر ما بين هذا وذاك من اختلاف في خدمة مشروع الترجمة والقيام بحقه وحق الأمة فيه¡ هذا على كل حال إذا كنّا آمنا أن الترجمة عمود من أعمدة العقل ووتد من أوتاد الحياة¡ وهو ما أحسب الجميع معي فيه.
ومن الأخطاء المعتادة¡ وأضرّ شيء على المرء ما يعتاده¡ أن تُلام الجهات الحكومية والمؤسسات¡ وتُصوّب إليها وحدها سهام النقد ورماحه¡ ويُغفل عن الأفراد¡ الذين يُتوقع منهم أن يكونوا رأس حربة في الدعوة¡ وصفّاً أولَ في تحمّل الأعباء والقيام بها¡ إنّ الأفراد¡ وأخصّ منهم العلماء والأكاديميين¡ هم الفريق الأول في تفقّد حاجات المجتمع وتلمّس ما ينقصه¡ ومتى خسر المجتمع جهدهم¡ وفاتته يقظتهم¡ فقد أُتي من قِبِل روّاده¡ وقد قالت أسلافنا قبلنا: الرائد لا يكذب أهله! وإذا كان الرائد في الماضي يتتبع مساقط الغيث ومنابت الكلأ¡ فهو اليوم يتقصّى خلف منابع الحكمة ومظانّها¡ ويُجيلُ بصره في أهلها والْحُجّاب على أبوابها¡ ويُنادي قومه وبني وطنه إليها.
إن المثل الذي رأيت طرحه¡ وسعيت لتبيان فكرة المقالة به¡ يدور حول شخصيتين أكاديميتين¡ لهما حضور في الساحة السعودية منذ عقود¡ وللقارئ أن يستحضر غيرهما¡ ويقوم بالمقارنة وفق فكرة الترجمة¡ وهاتان الشخصيتان هما د. الغذامي ود. المزيني¡ فمع أنّ كليهما أستاذ في تخصصه¡ له جولات مع خصومه حوله¡ إلّا أنّك تُفاجئ أنّ أولهما لم يترجم في تخصصه كتاباً¡ ولم تخطر له فكرة الترجمة مع كثرة نزاعه فيه ومخاصمته حوله¡ ولم يدعُهُ تبنّيه مناهج غربية وأُطراً نظرية أُوروبية¡ أن يسلك طريق الترجمة¡ ويتّخذه وسيلةً¡ يُوضّح به المفاهيم¡ ويُزيل به عنها الغبش.
على حين تجد الآخر¡ وهو حمزة المزيني¡ قد ترجم طائفة من الكتب¡ وعُني بإخراجها¡ وتكبّد الصعاب في سبيلها¡ وهو على جهده المضني فيها لم ينل ما يستحقه¡ ولم يحظ بما هو أهله¡ ومثله حريّ أن يُشكر¡ وقمين أن يُذكر¡ وحسبنا منه أن قضى سحابة يومه ينقل لنا مراد مؤلفيها ومقصد كاتبيها¡ فكيف وقد جمع إلى ذلك حسن الأسلوب وخفّة العبارة ووضوح المعنى¡ ولن يعلم مقدار ما بذله إلا مَنْ عانى معاناته¡ وجرّب وعورة طريقه¡ وخاف في الترجمة أن يُخطئ مراد الكاتب¡ ويزوّر قوله¡ ويُستهدف بعد ذلك من جرّائه.
إنّ من الأسئلة المشروعة: لماذا رأى أستاذ سعودي أن في كتب تخصصه ما يستحق الترجمة¡ وذهب في هذا الميدان العسر¡ الذي يكون التأليف أسهل منه وأخف¡ ورأى آخر أن رجال تخصصه¡ الذي جاء به وشغل وظيفة لأدائه¡ لم يؤلفوا ما يستحق الترجمة¡ ولم يُخرجوا لأهل العلم ما يصلح للاهتمام¿ إنه سؤال مشروع أن تنظر فيه¡ وتفكر في عواقبه¡ وتتأمل دلالاته¡ وتمضي معه إلى حيث تنتهي بك هواجسه ونحن في مرحلة أحوج ما نكون إلى نقل العلوم¡ وإطلاع الشعب عليها¡ وبسطها بينهم بأقلام أصحابها¡ فتلك جادّة الأمم ما دامت صناعة المعرفة في أيدي غيرها¡ ومتى لم يقم بها الأساتذة فمن ذا ينهض بها¡ وينوء بأعبائها¿
http://www.alriyadh.com/1857156]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]