فرق شاسع بين ما يتعرض له الباحثون في العالم الثالث من إحباطات وبيروقراطيات وإهدار للوقت ونقص في التمويل، وما يجدونه من تشجيع سخي للمتفوقين ورعايتهم وتحقيق طموحاتهم من قبل الحكومات والشركات الغربية، مع إعطائهم حرية واسعة لمواصلة الدراسة أو إجراء البحوث ومن دون شروط أو قيود..
سألني زميل في البرلمان العربي، هل لا تزالون تبتعثون الطلبة إلى جامعات الغرب؟ أجبته: نعم، وبأعداد كبيرة كل عام. أضاف: وهل يعود المبتعث بعد انتهاء بعثته؟ أجبته: نعم، وحال انتهائه من البعثة. رد علي والحزن يغلف تعابير وجهه، للأسف لدينا من يذهب إلى هناك لا يعود.
تسرب الكفاءات تعاني منه معظم الدول العربية ودول العالم الثالث، فقد أشار الدكتور حامد عمار من مصر في سيرته الذاتية "خطى اجتزناها" كيف تمت مقابلة ابنه مصطفى والذي عاد إلى وطنه مصر يحمل شهادة الماجستير من أفضل معاهد التكنولوجيا على مستوى العالم وهو "إم آي تي"، وهو شاب متميز وابتعث إلى هناك على حساب والده، وبعد عودته إلى مصر أحب والده أن يعمل ابنه في مصر، وأن يبدأ بتسجيله في نقابة المهندسين، ومن متطلبات ذلك معادلة الشهادة، وفي مكتب الموظفة المسؤولة عن ذلك بحثَت عن اسم الجامعة التي تخرج منها ولم تجد سوى ذلك المعهد "إم آي تي"، لتعاتبه على تجشم مصاعب السفر والتكاليف الباهظة ولديهم في القاهرة ما هو أفضل منه. ثم طلبوا منه شهادة باسم المقررات التي درسها خلال أربع سنوات في البكالوريوس ونسخة من الرسالة، وعلى الفور نهض الابن وشكر المدير على معلوماته، ووعده أنه سيستوفي المعلومات المطلوبة، وهكذا أفشلت البيروقراطية محاولات الوالد لإغراء ابنه في العمل في مصر. وقد أغرته شركة "بل" الكندية للاتصالات للعمل في بحوثها في أوتاوا عاصمة كندا، ليترقى سريعاً حتى أصبح رئيس فريق ثم مديراً للمشروعات، لكن والده لم يكن مستريحاً لذلك وأقنعه بمواصلة الدراسة ونيل شهادة الدكتوراة، حيث التحق بجامعة ووترلو، ومنحته الجامعة 5000 دولار شهرياً مقابل مشاركته في التدريس، وقدم له المجلس الوطني الكندي 10 ألف دولار شهرياً لمساعدته حتى حصوله على الدكتوراة، وحين أبلغ رئيسه في الشركة رغبته بترك الشركة ومواصلة الدراسة شكره، وأرسل له بعد أسبوع خطاباً يحيطه علماً بأن مجلس أمناء المركز قرر منحه مبلغ (10) ألف دولار شهرياً غير مشروطة بعودته إلى المركز بعد حصوله على الدكتوراة.
ويذكر الدكتور عمار في سيرته أن ابنه التحق بـ "معهد جورجيا التكنولوجي" في مدينة أتلانتا عاصمة جورجيا ليترقى في السلك الجامعي إلى درجة أستاذ ثم ليرقى إلى درجة أعلى وهي المعروفة بدرجة أستاذ ريجنت "Regent Professor GIT" وهو كرسي للأستاذ المتميز حتى لا يركن الدكتور إلى الاسترخاء بعد حصوله على أستاذ. فرق شاسع بين ما يتعرض له الباحثون في العالم الثالث من إحباطات وبيروقراطيات وإهدار للوقت ونقص في التمويل، وما يجدونه من تشجيع سخي للمتفوقين ورعايتهم وتحقيق طموحاتهم من قبل الحكومات والشركات الغربية، مع إعطائهم حرية واسعة لمواصلة الدراسة أو إجراء البحوث ومن دون شروط أو قيود.
العالم يتغير بسرعة هائلة، أصبح رأس المال البشري وما يملكه من المعرفة وما يتقنه من التقنية هما الثروة الحقيقية. فبعد أن كان العالم يعتمد في دخله نسبة 80 % على المواد و20 % على المعرفة، تغيرت الحال وأصبحت المعرفة هي التي تحظى بنسبة 80 % من الدخل. لقد أصبح رأس المال البشري المسيطر على كبرى الشركات التي تملك مراكز أبحاث تستقطب عقولاً تعمل ليل نهار على البحث والتطوير.
المملكة برؤيتها الطموحة وبرامجها المتعددة بحاجة إلى استقطاب المزيد من الكفاءات والمواهب المحلية والعالمية، وتسهيل الإجراءات الإدارية والمالية التي تضمن جذبهم وتمكينهم وإبقاءهم في الجامعات ومراكز الأبحاث والشركات، ومنها تفعيل برنامج الإقامة الممتدة لاستقطاب الكفاءات العالمية، مع العمل المستمر على رفع مستوى أداء الجامعات بتفعيل التوأمة مع الجامعات العالمية وكلياتها المتميزة، وإنشاء منصة إلكترونية تعنى باستقطاب الأفضل على مستوى العالم كما هو لدى الجامعات المتميزة في العالم المتقدم. أما مراكز الأبحاث فلا بد لها من وجود تعاون مع مراكز الأبحاث في الدول المتقدمة لتبادل الخبرات والكفاءات والاستفادة من منتجاتها بتصنيعها وتسويقها.
المملكة في مرحلة بناء كبيرة وعمل جاد لتنويع مصادر الدخل، ولا شيء سيساهم في ذلك مثل وجود مراكز أبحاث منتجة وجامعات قوية تستقطب أفضل العقول على مستوى العالم، سواء كطلبة أو أعضاء هيئة تدريس.
http://www.alriyadh.com/1872085]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]