ركزت الرؤية على أن السياحة الثقافية نشاط متعارف عليه على مستوى العالم، وأنها لا تؤثر على الموروث الثقافي سلباً إذا ما تم التخطيط لها بشكل صحيح، بل هي فرصة للتعريف بالموروث وتقديمه للعالم..
مرّ ما يقارب الثلاثة أعوام منذ أن تركت مركز التراث العمراني الوطني في هيئة السياحة والآثار سابقا، وقد كنت مشرفا عاما على المركز ومساهما في تأسيسه مع الأمير سلطان بن سلمان من العام 2011م، لقد كانت للأمير رؤية بعيدة حول التراث الوطني وكان حريصا على ترجمتها من خلال برامج العمل التي تبناها المركز وباقي قطاعات هيئة السياحة، سوف أتطرق في هذا المقال إلى بعض "الصدام" الذي عادة ما ينشأ بين "السياحة" كفعل اقتصادي وبين "التراث" كمخزون ثقافي، وكيف واجهت هيئة السياحة سابقا هذا الصدام.
ركزت الرؤية على أن السياحة الثقافية نشاط متعارف عليه على مستوى العالم، وأنها لا تؤثر على الموروث الثقافي سلباً إذا ما تم التخطيط لها بشكل صحيح، بل هي فرصة للتعريف بالموروث وتقديمه للعالم. أذكر أن الأمير سلطان بن سلمان وصف القرى التراثية بالنفط الأبيض، وقال إنها آبار نفط غير ناضبة، أكثر ما يقلق العالم في هذا المجال هو التوظيف الجائر للتراث في مجال السياحة لذلك فقد عقدت منظمة السياحة العالمية مع اليونسكو أول مؤتمر ركز على التوازن بين المحافظة على التراث وبين توظيفه سياحيا في كمبوديا قبل عدة سنوات شاركت فيه ضمن فريق رأسه سمو رئيس هيئة السياحة سابقا، الهدف الأساسي وراء ذلك المؤتمر هو تنظيم السياحة الثقافية بحيث لا تؤدي إلى تدهور المواقع التراثية، ومن الواضح أن إحداث حالة من التوازن بين الثقافة والاقتصاد يتجسد في الكيفية التي يفترض أن يتم التعامل بها مع القرى التراثية كوجهات سياحية، يجب أن نذكر هنا، أن مفهوم الاستثمار السياحي واكتشاف المكامن الاقتصادية لتلك القرى لم تصبح واضحة إلا خلال العقدين الأخيرين وكانت في حالة تصاعد بطيء إلى السنوات الأخيرة التي ساهمت فيها التحولات الكبيرة التي تعيشها المملكة في الوقت الراهن وانفتاحها على العالم ضمن رؤية 2030.
لا أحد ينكر أن المملكة تملك فرصة كبيرة جدا لتحويل مواقعها التراثية إلى مجال مفتوح لتقديم التاريخ والثقافة السعودية ومجال لتنوع مصادر الدخل. وتكمن هذه الفرصة في التنوع البصري والجغرافي لهذه القرى وتراثها الملموس وغير الملموس والحكايات الممتدة في عمق التاريخ التي تحكيها تلك الأمكنة. ومن المعروف أن السياحة الثقافية تقوم على "التنوع" و"الحكاية" التي تجعل للمكان حضورا مرتبطا بتاريخ الناس عبر الزمن، ربما نحن في بداية الطريق، لكن أرى أننا في مرحلة انتقالية ستصبح بعدها القرى التراثية في المستقبل القريب مجالا مهما لتنوع مصادر الدخل في الاقتصاد الوطني.
تبنى مركز التراث العمراني الوطني منهجية أنه لا يمكن استدامة مواقع التراث دون وجود من يستخدمها، وبالتالي تحويل هذه المواقع إلى وجهات سياحية يساعد بشكل كبير على المحافظة على القرى التراثية وبدلا من أن تترك هذه الإمكان للخراب أو أنها تستخدم بشكل عاطفي من قبل بعض السكان وتصبح مصدر إنفاق، فإن توظيفها سياحيا سيساهم بشكل كبير على المحافظة عليها واستدامتها، هناك دائما جدل حول هذا الموضوع، فهناك من يؤمن بالمحافظة على المواقع دون استخدامها لأسباب مرتبطة بتاريخ الأسرة، وهذا توجه عاطفي محض ويمثل عبئا اقتصاديا لا يمكن تحمله لفترة طويلة، وبدلا من ذلك يجب التفكير في التوظيف المتوازن لهذه المواقع اقتصاديا كي تنفق على تشغيلها ذاتيا واستدامتها بل ولتوفير العديد من الوظائف ومصادر الدخل لملاكها وسكانها.
ومع ذلك لم يتم تجاهل كون القرى التراثية لها قيمة عاطفية كبيرة وأنها أمكنة عانت من انفصالها في فترة زمنية معينة عن سكانها. لقد تبنى مركز التراث عدة برامج لتحفيز عودة السكان مرة أخرى لتلك القرى ولم يقف في موجهة الطبقات المحملة بالحنين للماضي واستذكار للذاكرة المجتمعية وبالتالي أتاح الجدل حول إن كان هذا الحنين مؤقتا أو دائما أو كونه مرتبطا بتطور مفهوم الارتباط بالمرجع وبمفهوم فسيفسائية الهوية الوطنية التي يفترض أنها تعني التنوع داخل الوحدة أي الاعتزاز بالارتباط بالمرجع الشخصي والأسري لكن داخل إطار الوطن الكبير، عبرت تلك الاستراتيجية عن وعي كبير من قبل الأمير سلطان بتعدد الأفكار والأهداف ومقدرة فذة لاستيعاب هذا التنوع وتوجيهه لخدمة الهوية الوطنية.
كان الهدف الحاضر في الذهن دائما هو تعزيز الارتباط بين هذه المواقع التاريخية وبين العوائد الاقتصادية الذي يعكس قدرة المواقع على التحول إلى وجهات سياحية، فالقيمة الاقتصادية ضامن مهم للاستمرار، حتى بالنسبة للأجيال التي لم تعايش تلك الأمكنة والتي لا تربطها بها عاطفة قوية غير ذكريات الإباء والأجداد التي قد تضعف مع الوقت، العائد الاقتصادي واستثمار الفرص السياحية وتعزيز التنوع وتقديم التراث المادي غير الملموس الذي يميز هذه القرى سيمثل عاملا أساسيا لتحول هذه المواقع إلى جزء من المنظومة الاقتصادية الوطنية، لأن الاعتماد على عاطفة الناس فقط لن يساهم في بقاء الظاهرة، ولن يُبقي الحماس على ما هو عليه لفترة طويلة.
http://www.alriyadh.com/1872087]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]