دائماً تثار قصة محاكمة "جاليلو" على أنها عينة للأزمنة الظلامية، وأن الإنسان قد دخل زمن "العقل"، وأعاد الإنسان سبب تخلفه القديم إلى التعصب الديني والمذهبي، لكن هذا التعصب في الأساس ناتج عن الخوف من تغير المعرفة، فهل تغير ذلك في زمن العقل؟ لا أظن ذلك، فلا يزال الإنسان يعيق نفسه.
على الرغم من تطور قدرة الإنسان من علم وثروة، إلا أن الخوف جعل الإنسان عائقاً أمام قدراته، فلو ذهبنا إلى أهم الصناعات في حياة الإنسان وهي صناعة الدواء، والتي يقدر أن نموها صاحبه ارتفاع معدل الأعمار عالمياً من 50 عاماً في الخمسينات الميلادية إلى 74 عاماً العام الماضي -حسب البنك الدولي-، وهناك بعض الابتكارات الطبية التي غيرت حياة الإنسان والمجتمع مثل حبوب "منع الحمل" التي كان لها دور رئيس في زيادة مشاركة المرأة في سوق العمل وإنتاجيتها وتقليص فرق الرواتب بينها وبين الرجل أكثر من القانون والقناعات العامة، إلا أن هذه الصناعة تواجه العقبات أمام نموها وازدهارها، فهي في الأصل بطبيعتها تواجه سرعة انكماش منتجاتها، حيث العائد على المنتج بعد ظهوره وازدهاره مبدئياً سوف يواجه تباطؤاً ومن ثم انكماشاً مثل أي اختراع، لكن ذلك يحدث أسرع -نسبياً- في صناعة الدواء، وهذا طبيعي بفضل الوعي الصحي الذي يتطور في المجتمع في البعد عن مسببات المرض ويسمى هذا المفهوم "تناقص العائد law of diminishing return"؛ لذلك هي بحاجة إلى تسريع ابتكاراتها وإنتاجها.
في المقابل نجد سبباً آخر يعيق ازدهار هذه الصناعة المهمة، وهو الفترة الطويلة والقوانين المعقدة لقبول أي دواء حيث تصل إلى سنوات، وبعد أزمة وباء كورونا الأخيرة ازدادت الشكوك حول جدية هذه القوانين خصوصاً بعد انتشار هذا الوباء، فقد تمت مراجعة بعض هذه القوانين استثنائياً بسبب خطورة الوباء الذي وصل لإنهاء حياة الآلاف يومياً، بالإضافة إلى أزمات اقتصادية وارتفاع معدل الديون عالمياً وتأثر الدول النامية والفقيرة خصوصاً بها.
ومع ذلك أظهرت اللقاحات كفاءة في انخفاض عدد المصابين، حيث لوحظ انخفاض عدد المصابين منذ 8 من فبراير، متزامناً مع تزايد عدد المطعمين في الولايات المتحدة وبريطانيا، وكانت هذه اللقاحات أصلاً قد خضعت لعدة أطوار، واستغرق كل طور أشهراً عديدة للمراقبة الدقيقة، ووصلت عينة المجربين في المرحلة الثالثة إلى ما بين 30 ألفاً إلى 40 ألفاً من مختلف اللقاحات، وقد قبلت من مختلف المنظمات الطبية، كما تلقى التطعيم أهم الأطباء والقيادات في العالم.
هذا النجاح يثير الشكوك حول القوانين التقليدية الموجودة وكونها عبء على الصناعة الطبية، والتي أبعدت اهتمام السوق بالشركات الطبية والاستثمار فيها، لو أخذنا أسعار الأسهم كمؤشر فسهم شركة "فايزر" من أقل الأسهم ارتفاعاً، أما "موديرنا" فكان ارتفاعه يرجع لنموذج الشركة الذي تغير كثيراً، حيث تلقت دعماً يبلغ مليار دولار، ومبيعاتها لا تتجاوز 60 مليوناً عام 2019 -حسب بلومبيرغ-.
لذلك نجد أن حجم الاستثمار في الأبحاث السرطانية محدود قياساً بالاستثمارات العالمية، مع العلم أن معدل عدد المصابين بمرض السرطان لم ينخفض في كل أنواعه منذ العام 1990. إن زيادة الأرباح تساعد الشركات المنتجة لمواجهة أمراض عديدة قد لا تكون مجدية تجارياً لندرة المصابين بها، تصل الأمراض النادرة إلى 7000 مرض نادر -حسب منظمة الصحة العالمية-، ولا يوجد تجارب كافية عليها ودراسة. أما الأمراض التي تصيب الدول الفقيرة فنفقات البحث فيها منخفضة لا تصل إلى 4 مليارات دولار، 80 % منها تكون من الحكومات والجمعيات الخيرية ولا تلقى اهتمام الشركات أو السوق، لو كانت الشركات تربح بشكل أفضل لكان ممكناً أن تساهم بشكل أفضل في الأمراض النادرة والمجتمعات الفقيرة.
نعم التعصب الديني وهيمنته قد انحسرت، لكن العقل والمنطق لم يتسيدا بالكامل بعد، والسبب هو الخوف، فعلى الرغم من تطور الجامعات والمنظمات المشرعة إلا أن الجمود في التشريعات والقوانين يعطل نهضة الإنسان، والسبب هو الإنسان نفسه الذي نقل جمود محكمة "التفتيش" إلى الأزمنة المعاصرة.
http://www.alriyadh.com/1872418]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]