القدرات العقلية والعلمية مثلها مثل البدنية، فلا خير فيها إذا لم تهد صاحبها إلى الطريق السليم، ولا مزية لها إن كانت نفسه منصرفة عن الخير، فالعقل إذا لم يصن صاحبَه عن الارتماء في مهاوي الشر فلا اعتداد به، بل يكون حسرة وخيبة أمل..
الإنسان كيان متكون من جسم وروح يصطحبان منذ نفخ الملك الروحَ فيه وهو جنين، إلى أن تودع الروح البدن عند الممات، وللإنسان كثير من الصفات الحميدة والذميمة بعضها يتجلى في مظهره الجسماني، وبعضها صفات تنم عن صفاء روحه إن كانت طيبة، أو عن كدرها إن كانت سيئة، ومن طبيعة الإنسان حب التميز والتوق إلى أن يكون محل أهمية، فمنهم من يتوصل إلى ذلك بمجاهدة النفس وحملها على الخصال الحسنة وتنقيتها من شوائب الشر، ومنهم من يتَّكل في سبيل تحصيل ذلك على قدراته القولية والفعلية التي قوامها جودة وجلادة الجوارح وطلاقة اللسان، والتي يتفاوت الناس فيها تفاوتاً عظيماً يغترُّ به من يظن أنها وحدها مكمن علو المقام وغلاء القيمة، ولي في هذا وقفات:
أولاً: تميز الإنسان عن سائر الكائنات الحية بصفات هيأه الله لها لا توجد في غيره، وهذا من تمام كرامته لهذا الجنس الكريم الذي من شرفه أن اجتبى الله منه أنبياءه خيرته من خلقه، ومن الجلي أن ذلك التميز يشمل جميع جوانب شخصيته من المظهر الخارجي والقيم النفسية قال الله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)، وقد أودع فطرة الناس طلب تنمية وتقوية ما وهب لهم من أحسنية التقويم، ويدرك شيئا من ذلك كل إنسان مميزٍ، وإنما يتفاوتون في تحديد الطريقة المثلى لذلك، فالموفق منهم من أدرك أن عليه أن يزكي نفسه ويتسامى بها، ويجمِّلها بمكارم الأخلاق، وأن يستثمر قدراته الذاتية التي منحت لها بمقتضى تركيبة جسده الخاصة فيما يعود عليه بالنفع، ومنهم من يظن أن قدراته الجسمية والكلامية كفيلة بأن يزاحم بها أهل الفضائل في مراتبهم السنية، وهيهات أن يزاحمهم.
ثانياً: إذا اجتمع للإنسان التميز المظهري والمادي وتميز النفس بالصفات الحسنة والتصرفات الراشدة، فذلك الأمنية العظيمة، والنعمة الكبيرة؛ فمن وهبه الله حسن الصوت ووفقه إلى صرفه في تلاوة كتابه فقد اجتمعت له فضيلة الميزة الخِلقية وميزة التصرف الملائم، فكان ذلك محمدة له، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ بِالقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ» أخرجه البخاري، ومعنى أذن استمع، فما أعظمها من منقبة نبعت من صرف نعمة الخصائص الشخصية في الخير، وقل مثل هذا في القوي البدن الشجاع النفس ذي المهارات المرموقة فإذا تحلى مع هذا بمكارم الأخلاق اجتمعت له الفضائل والمزايا، فالْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، فلو كان هذا الرجل الجلد في رفقة من ضعفة الناس حتى رأوا إنساناً يتعرض لتلف لا ينجيه منه إلا من كابد المشاق وأقدم على المتالف فتولى القوي هذه المهمة ثبتت له المزية، وإذا انفردت إحدى المزيتين فالمزية المعنوية أرجح، وعلى هذا يدل حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ» متفق عليه، وأما انفراد القوة المحسوسة من غير أن تضبط بالأخلاق فلا محمدة فيه، فقد يكون قاطع الطريق على القدر العالي من المتانة والجراءة ولا فائدة في ذلك.
ثالثاً: القدرات العقلية والعلمية مثلها مثل البدنية، فلا خير فيها إذا لم تهد صاحبها إلى الطريق السليم، ولا مزية لها إن كانت نفسه منصرفة عن الخير، فالعقل إذا لم يصن صاحبَه عن الارتماء في مهاوي الشر فلا اعتداد به، بل يكون حسرة وخيبة أمل؛ ولهذا يتحسر الناس على من يرون أنه ذو عقل، ثم يرونه يسلك مسلك السفهاء؛ ولهذا لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بطرح قتلى بدر في القليب عُرف في وجه أبي حذيفة بن عتبة الكراهيةُ وأبوه يسحب إلى القليب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا حذيفة، والله لكأنه ساءك ما كان في أبيك» فقال: والله يا رسول الله، ما شككت في الله وفي رسول الله، ولكن إن كان حليما سديدا ذا رأي، فكنت أرجو أن لا يموت حتى يهديه الله عز وجل إلى الإسلام، فلما رأيت أن قد فات ذلك ووقع حيث وقع أحزنني ذلك. أخرجه الحاكم، وكذلك القدرات العلمية إذا لم تصْف نفس صاحبها كانت وبالاً كما حصل للفرق الضالة وأصحاب المناهج العلمية فقد كانت أفكارهم شراً مستطيراً، أينما وقع ضرَّ؛ لأنها لم تضبط بضوابط صحيحة، ولم ينبع من أنفس طيبة، بل صدر من أنفس خبيثة منطوية على السوء (وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا).




http://www.alriyadh.com/1874329]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]