هل يُمثّل العقل المسلم، في تاريخه الطويل الممتد، سماحةَ الإسلام ونُبل مقاصده وعظمة غاياته؟ وهل يصدر العقل المسلم المعاصر عن تلك السماحة وذاك النبل؟ بل أكان في مقدور هذا العقل أن ينتهي إلى ما رامه الدين منه، ويصل إلى ما دعاه الله تعالى إليه؟ وأخيرا ما الصورة التي ينبغي علينا رصدُها عنه حين ننظر إليه من خلال هاتين القيمتين؟..
سماحة الإسلام ورأفته ورحمته بالعالمين أساس راسخ لكل المذاهب الإسلامية حين يكون خطابها للمنتمين إليها، أو لمن لم يُسلم من البشر بعد، وأقصد هنا الرسالة التوضيحية للإسلام أمام غير المسلمين، وحالما يكون الخطاب لمن يُخالف المذهب، وينتقد بعض مفاهيمه، ويتعقّب بالنقد بعض رجاله؛ تستحيل السماحة، وتنقلب الرأفة، وتضعف الرحمة، ويبدأ خطاب جديد، سببه الأساس اختلاف الفهم! يعاب فيه المخالف، ويُهدد فيه بالوعيد، ويُشكك في دينه وصلاحه، وهؤلاء الخلق الذين انتهوا إلى هذه الحال مع المخالف، وصيّروا فهمه المختلف نافذة تسمح لهم بقذفه وذمه وازدرائه، هم أنفسهم الذين كانوا قبل قليل يُشيعون ثقافة السماحة، وينشرون الرأفة، ويُبشرون بالرحمة، فما أعجبَ صنيعهم! وما أغربَ مذهبهم! وما أضرّ اختيارهم!
إنّ اختلاف الفهم راجعٌ إلى العقل، وعائد إليه، وما تراه من هجومٍ على المخالفين، وتشنيعٍ عليهم، وسخريةٍ بهم؛ ما هو إلا وجهٌ من وجوه الزراية بالعقل، والاستهانة به، والحطّ من شأنه، هذي هي عندي حقيقة الصورة التي نقرؤها في كتب تراثنا، ونسمعها من أهل زماننا، وتغذو بها خطاباتنا، في مختلف بقاع العالم الإسلامي، أجيالنا، ونرى أثرها في من حولنا، فعلى مَنْ يستهين بغيره حين يفهم ما لم يفهمه، ويَشينه حين يعي بما لم يعِ به؛ أنْ يستشعر أنّ صنيعه هذا وما قام به، ما هو إلا بخْس للعقل وظلم به، واعتداء عليه، فليُخفف مِن صَولته مَنْ يتغنّى بالعقل، ولا يفتر لسانه من الثناء عليه، وليعلم أنّ من أوضح الأمور، إذا كان فيها الواضح، اختلاف العقل وتنوعه وتعدد اجتهاداته، وما يشهد تاريخ الإنسان على شيء أكثر من شهادته على هذه القضية، فلنفطنْ لشهادة التاريخ هذه، ولْتُكن على مقربة منا، ولْتُصبح سيرة العقل الإنساني بعض ما دعانا الإسلام إلى العبرة منه والاعتبار بما فيه "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم بك ولذلك خلقهم".
والسماحة دعوة الدين، وثمرة تاريخ العقل، فالرسول عليه الصلاة والسلام، كما جاء في "الشفا" للقاضي عياض، "كان لا يُواجه أحدا بما يكره"، وتاريخ العقل المسلم، وشاهدي هنا كتب العقائد والاختلاف الفقهي، برهان بيّن على تعدد المسارب وتشتت المشارب، ومَنْ يغفل عن ذلك، بأي حجة كانت، فغفلته عظيمة، وسهوه كبير، وما أظن شيئا أكثر أدلة، وأوفر حججا، من هذه المسألة التي أُحدثكم عنها.
نعيش في زمن بدأت فيه يقظة عقلية، ونهض الناس المفكرون والمثقفون وغيرهم إلى الطواف حول العقل ومقتضياته، وصرتَ لا تعدمُ سائلا عنه، وداعيا إليه، والانشغال بالعقل والتفتيش فيه وعنه؛ بياضُ الصبح الذي كان أمثالي ينتظرونه، ويرجون بصيصه، ويعدّونه معلما على ما بعده، وأمارةً على ما ستنتهي به رحلتنا إن شاء الله، فهذه العناية الجديدة، وهذا الاهتمام اليقظ، سيدفعاننا إلى جعل العقل المسلم محلّ درسنا ونظرنا، وسيتلو ذلك قريبا طرحُ أسئلتنا، والأسئلة زادُ النظرِ وقِرى الفكرِ، على شاكلة: هل يُمثّل العقل المسلم، في تاريخه الطويل الممتد، سماحةَ الإسلام ونُبل مقاصده وعظمة غاياته؟ وهل يصدر العقل المسلم المعاصر عن تلك السماحة وذاك النبل؟ بل أكان في مقدور هذا العقل أن ينتهي إلى ما رامه الدين منه، ويصل إلى ما دعاه الله تعالى إليه؟ وأخيرا ما الصورة التي ينبغي علينا رصدُها عنه حين ننظر إليه من خلال هاتين القيمتين؟
من صور سماحة العقل، ونبل أهله في تاريخ الإسلام؛ ما يرويه أبو نُعيم الأصبهاني في حِليته(4/ 44) بسنده عن طلحة بن مُصرّف أنّ: "موسى الجهني قال: كان طلحة إذا ذُكر عنده الاختلاف، قال: لا تقولوا: الاختلاف، ولكن قولوا السعة"، وهذا معنى لطيف، وغوص على الحقائق ظريف، لا يستطيعه كثيرون، بل لم يستطعه إلا كَمَلةُ البشر وعَقَلةُ الناس، الذين أيقنت نفوسهم، وآمنت أفئدتهم؛ أنّ مُحاصرة العقل، وتقييد نشاطه، وعرقلة بحثه وتطوافه؛ تصبّ في التشديد على البشر، والتضييق عليهم، وتأزيم حياتهم، وهو المعنى الفريد الذي هُدي له هذا الإمام، ودُلّ عليه، ولم يفطن له أُولئك الذين آمنوا بمذاهبهم، وصَمّوا عن غيرها آذانهم، فلم تُعرف السماحة عندهم إلا لمن قال بقولهم، وذهب مذهبهم، وأخذ بطريقتهم، فحجّروا واسعا، وضيّقوا فسيحا، وحالوا بين العقل المسلم وبين السماحة والنبل، ولو أنّهم أعطوا العقل حقّه، وَوَفَوْهُ نصيبه؛ لكنّا نحن المسلمين أحببنا ذلكم العقل بما فيه، وأنسنا به، ولم تمتلئ نفوسنا بالوحشة منه، والخوف بسببه، فهو السبب بعد الله وراء تلكم السعة، التي حدّثنا عنها طلحة، ونبّهنا لها، ولو لم تختلف اجتهادات الناس، وتتنوع نظرات عقولهم؛ لكانت حياتنا أضيق، ومعاشنا أنكد، ومع هذا فيبقى الجمهور العريض هم أُولئك الذين كان طلحة يتعقّب حديثهم، ويُصحح مفاهيمهم؛ فليفطن الفطن، وليصحُ الأريب!
http://www.alriyadh.com/1874758]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]