من الزمجرة والمهمهة حتى التخاطر الرقمي قطعت البشرية رحلة مثيرة، نشأت وتطورت فيها وسائل الاتصال، من رموز وعلامات، مروراً باللغات والحروف، حتى تلقفنا عصر "التواصل الاجتماعي"، الذي لايزال يبهرنا كل يوم بمفاجآته!
هذا التسارع ترافق مع تطور البشرية، والظاهرة الاجتماعية التي تدفع الإنسان إلى الاتصال بأخيه الإنسان، كما يراه المؤرخ والأديب الإنجليزي "هيربرت ويلز" صاحب كتاب "موجز تاريخ العالم"، فهو ينظر إلى قصة التطور التاريخي البشري أنها قصة تطور عملية الاتصال، ويؤكد ذلك مبتكر نظريات الاتصال الجماهيري "ماكلوهان" الذي يرى أن كل حقبة زمنية في التاريخ تستمد شخصيتها المميزة من الوسيلة الإعلامية المتاحة على نطاق واسع.
أعتقد أنه يمكن تقسيم عصور تطور الاتصال إلى ستة، الأول: عصر التواصل "غير اللفظي"، حينما تلمس الإنسان البدائي وسائل اتصاله مع محيطه عبر أصوات محدودة يطلقها، كالصراخ والدمدمة، بالإضافة إلى استخدام يديه ورجليه للإشارات ووجهه للتعابير، ثم مع تزايد الجماعات البشرية تطورت تلكم الأصوات لتشكّل ما يشبه لغة التخاطب ما بين أفرادها، أي العصر الثاني: "الاتصال اللفظي"، الذي اشتمل أيضاً على حفر الرسومات البدائية والصور التعبيرية على الصخور، لمحاولة تسجيل الأحداث والعناصر المحيطة.
مع الوقت تطورت الرسومات، ليمسي كل رمز معبراً عن فكرة محددة، ويعتقد أن "السومريين" كانوا أول من ابتكر مفهوم المنطوق الصوري للرموز "الحروف لاحقاً"، مما مهد الطريق لظهور أبجديات اللغات، وهيمنة "الكتابة" على عصر الاتصال الثالث، التي مكنت من الاتصال غير المباشر وغير الآني بين بني البشر، ثم مع الهجرات وتطور أسلوب توثيق الكتابة عبر الألواح الطينية أو أوراق البردي ثم ورق الصينيين، نمت وتشعبّت اللغات، وأدت إلى نشر وتوارث الحضارات.
غير أن أهم حدث ساهم في نشر الاتصال البشري هو اختراع الطباعة منتصف القرن الخامس عشر، مما يؤهله لأن يكون عصر الاتصال الرابع، الذي عزز الثورة العلمية وساهم في نشر المعرفة وسهولة تداولها، مما رفع المستوى الاقتصادي والمعيشي للبشر.
القرن التاسع العشر شهد بزوع العصر الخامس: "الاتصال الجماهيري"، عبر تبني الاختراعات الحديثة كالتلغراف السلكي فاللاسلكي، ثم الهاتف، ثم القفزة الضخمة: الإذاعة، ثم تلاها السينما الصامتة فالناطقة، ثم اكتملت منظومة الاتصال الجماهيري بأول بث تلفزيوني عام 1936م، وعززت هيمنتها عبر ظهور الأقمار الصناعية التي استخدمت للاتصال الهاتفي والبث الفضائي.
العصر الذي نعيشه حالياً هو العصر السادس: الاتصال الإلكتروني، والذي بدأ مع شبكة الإنترنت منتصف القرن العشرين، والذي ارتقى بالاتصال إلى تواصل فوري ودائم، أي عملية تبادلية ثم تشاركية، تقدمت مع ظهور المواقع الإلكترونية والمنتديات والمدونات، ثم تطبيقات المراسلة الفورية، ومنصات التواصل الاجتماعي، التي لاتزال تتمدد كل يوم.
لا نعلم ما يخبئه الذكاء الاصطناعي في مستقبل الاتصال، غير أن الأكيد أن لا حدود له، وأنه دوماً يأخذنا إلى مستويات أسرع وأقرب مما نتخيل!
http://www.alriyadh.com/1874760]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]