قلت لابنتي.. الأحد القادم.. اليوم العالمي للشعر.. فقالت كل عام وأنت بخير يا أبي.. قلت لها لكنني لست الشعر.. فقالت ما عرفتكما إلا معا..!
قالتها بقبلة مبتسمة وربما عاتبة وغادرتني.. ابتسمت قليلاً ثم قلت «كل فتاةٍ بأبيها معجبة».. لكن هل قالتها إعجاباً بأبيها أم إيماءة إلى انشغال العمر بالشعر ثم لا تدركه ابنتي إلا بي، ولا تدركني إلا به...
يا لهذا الشعر الذي يقف العالم به غدًا إيماناً بكونه الملجأ الأخير للجمال في ظل القبح الكبير الذي يعم الأرض، ما أكثرني إذن حين تلبّسني هكذا في عيون ابنتي القربى، فهل رضيته لي في وهي التي منذ أن كانت صغيرة تحرص على عد أعقاب سجائري بعد كل قصيدة، فهل تمثّلته جمالاً لديها، أم سلبها بعض أبيها الذي تحب.. لهذا ليس لدي في هذا اليوم إلا أن أحدث ابنتي عن هذا الشعر معتذراً لها عن شعر عمري .. أو حتى عن عمري الشعري.. لا بأس يابنتي إنه الشاعر هكذا عاش غير مرضيٍّ عنه برغم حب التاريخ كل التاريخ له، يقول البنيوي الكبير جان كوهن في كتابه: «بنية اللغة الشعرية»: «إن الشعرية خطأ لغوي مقصود يمكن تبريره...» وقبله بقرون طويلة قال جدّنا الفرزدق من قمة عليائه: (... على ما يسوؤك وينوؤك.. علينا أن نقول وعليكم أن تؤولوا..).. إنه الشاعر حتى وحرفته اللغة لا ينصاع إلا للغته ثم لا تستشهد اللغة إلا بمنجزه.. لهذا كلما تمرّد على النحاة نبذوه زمنًا وعادوا إليه أزماناً.. لأنه الشاعر الذي ينسج عالمه.. يظل كائنًا غير مرضيٍّ عنه.. حتى الفلاسفة القدماء أخرجوه من مدينتهم الفاضلة بحجة تزوير الحقيقة.. لكنهم آخر الأمر اتحدوا معه حتى لم نعد نعرف اليوم أيهم الشاعر وأيهم الفيلسوف، كذلك رجال الدين حين اصطدموا به نبذوه، وزندقوه، وفسّقوه وأقاموا عليه حدّ «الفهم».. لكنهم عادوا إليه دائماً تأريخًا أو تجييشًا، وبدا في بعض الأحيان أن حرمة الشعر تجاوزت.. حتى الزمن واللحظة حيث وقف كلٌّ من حسان بن ثابت وكعب بن زهير وتغزلا بالخمر بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكن حينها إلا مؤمناً بأن للشعر حقيقته وهويّته وعالمه ونسيجه الخاص.. هكذا إذًا يشكل الشاعر تهديدًا وجوديّا لمن حوله، بعد أن يقتاتوا حتى على فتات ذنوبه وأخطائه، فالناقد والفيلسوف ورجل الدين يقضي كل منهم سنيناً مديدة في بناء وتشييد نظريته، ثم يأتي الشاعر بمطرقة رؤاه ووحي نبوءاته وتفرّد مخيّلته، ليكسر كل ما بناه هذا أو ذاك...!
ولأنه الشاعر، سيناضلُ الجميع به ضدّه، وسيحيا دائماً صراعات وجود هي من طبيعة الشعر بشكل عام، ووسط كل هذا الضجيج به عليه، سيظل الشعر رافضاً للحقائق القبْلية لينتج حقيقته الخاصة، أو حتى نظريته المتجددة حين يتطوّر عليها بين حينٍ وآخر.. إن الشعر كما يُقال تعبير غير عادي عن عالم عادي، لهذا لن يكون يومًا فعلاً معطًى مسبقًا كما هي الظواهر الطبيعية ولا يخضع لحتميّات بيولوجية يمكن إسقاطها عليه.. الشعر رحلة لا تبدأ ولا تنتهي نحو الجوهر الإنساني المشع والحارق.. رحلة لا يشرع فيها إلا من نذر روحه بخورًا بملامسته.. ومن يفعل كل هذا لن يلتفت لنظريات أو محاذير أقل بكثير من انتشار روحه بخورًا في كل الأزمنة والحضارات، ولن ينتبه للعمر يعبره دون أن تدرك ابنته أيهما كان الشعر أباها .. أم سعال قصائده بعد المزيد من السجائر ..!




http://www.alriyadh.com/1875919]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]