بعض الناس يتعود على سلوكٍ يألفه، ويُدركُ أن سلوكه ذلك يُنفِّرُ عنه الناسَ ويزهدهم في معاشرته، لكن لا يهتم بتغييره زعماً منه أنه مبدأ وأن تنازله عن مبدئه خسارةٌ واهتزازٌ للشخصية، فيهون عليه أن ينفض من حوله كل القريبين منه مقابل حماية تلك الشخصية الموهومة، وهذا خطأ كبير، فبقاء المودة بين الأسرة والأصدقاء هو المكسب، ومن خسره فقد غبن في صفقته..
لا ينفك الإنسان البالغ الكامل الأهلية من أن يأتي أشياء ويدع أشياء، ويستعيض هذا بذاك، فيرغب في أعمالٍ وأشخاصٍ واعتقاداتٍ مقابل العزوف عن غيرها، وهو في خضمِّ ذلك يرى أنه قد ظفر بالصفقة الرابحة بهذه المبادلة، لكن الواقع أن معيار الربح والخسارة ليس خاضعاً لميول أحد ولا مجاملاً لأي إنسان، فمن أخلَّ بالأهم واعتنى بغيره فقد خسر، وتتضاعف الخسارة إذا كان الـمُعتنى به خارج دائرة الأشياء المهمة، والعكس بالعكس فمن كان محتاطاً للأمور الأكثر أهمية محافظاً عليها مقدماً لها على المهمات بله التوافهِ فهو الرابح المحظوظ، وأكبرُ ربحٍ وأهمه أن يوفق الإنسان لصيانة دينه من دخيلة السوء في معتقداته، ومن مقارفة الموبقات، وفي حديث أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» أخرجه مسلم، وتحيط بكثيرٍ من الناس خسارة لا يشعر بفداحتها في كثيرٍ من أمور حياته مقابل التشبث بأشياء وهمية ظنها مكسباً، ومن تلك الخسارات:
أولاً: خسارة الدين والعرض مقابل نيل الشهرة والسمعة التافهة، وهذا سلوكٌ قديمٌ في الناس يعشقُ أحدهم الظهور، ويُدركُ أنه لا يتمتع من المزايا بما يرفعه على منصة الشهرة والصيت الحسن، فلا يستسلم ولا يكتفي بما كُتب له، فمنهم من يحاول نيل الشهرة بالتظاهر بأعمال البر من غير أن يريد بها وجه الله تعالى فيكون متلاعباً بشعائر الله تعالى، وقد جاء الوعيد الشديد على الرياء والسمعة في أعمال البر وأول من تُسعَّرُ بهم النار يوم القيامة القارئ يقرأ القرآن رياء وسمعة، فيسحب إلى النار، والمتظاهر بالجهاد رياء، ومتعلم العلم رياء، ومنهم من يحاول نيل الظهور بأعمالٍ شائنةٍ تجعل الألسنة تلوك اسمه، فيطير ذكره في الآفاق، وقد شاع هذا في عصرنا عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، فوجد هذا الصنف فرصته للاشتهار مقابل نشر التفاهات بشتى أنواعها.
ثانياً: خسارة الوطنية والكرامة مقابل الأوهام الفارغة، وهذا غبنٌ فاحشٌ يتعرض له الذين هانت عليهم أوطانهم وكرامتهم، فسعوا إلى النيل منها والإخلال بأمنها مقابل أوهامٍ مسمومةٍ اعتنقوها أو لقنوها، وتختص هذه الخسارة بمزيد خطورةٍ نظراً إلى عموم ضررها؛ لأن آثارها السلبية لن تقتصر على الجاني وحده بل هي متعدية مستطيرة الشر، وأيضاً هذه الخسارة مآلها أن تمس الضروريات الخمس كلها؛ فإن الفوضى التي يتطلعون إليها إذا اندلعت نارها كما يتمنون اكتوى بها الناس في دينهم وأنفسهم وأموالهم وعقولهم وأعراضهم، ولأجل ذلك أتت النصوص الشرعية صريحة ومتضافرة في الزجر عن جميع التصرفات المخلة بالأمن الاجتماعي بكل أشكالها، ووضعت قانوناً كلياً أوجبت الالتزام به، ولو التزم به الناس لضمن ذلك لهم الأمن والاستقرار، ألا وهو السمع والطاعة ولزوم الجماعة.
ثالثاً: خسارة الصحة -سواء العقلية والبدنية- مقابل تعاطي ما يهددها، فقد يُولعُ الإنسانُ بشيءٍ ليس في مصلحة صحته أن يتعاطاه، ويُخيَّلُ إليه أنه بتلبية دواعي ميوله الجامح إليه قد حقق لنفسه ما يُسعدها، والواقع أنه قد جنى على نفسه جنايةً عظيمةً، فماذا عسى أن يربحه من فرَّطَ في صحته، وجهل مقدار تلك النعمة التي هي من أعظم النعمة، وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم على أهمية الصحة فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ. متفق عليه.
رابعاً: خسارة العلاقات الأسرية والصداقات مقابل التمسك بخصلةٍ معينةٍ يمكن معالجتها والتغلب عليها، فبعض الناس يتعود على سلوكٍ يألفه، ويُدركُ أن سلوكه ذلك يُنفِّرُ عنه الناسَ ويزهدهم في معاشرته، لكن لا يهتم بتغييره زعماً منه أنه مبدأ وأن تنازله عن مبدئه خسارةٌ واهتزازٌ للشخصية، فيهون عليه أن ينفض من حوله كل القريبين منه مقابل حماية تلك الشخصية الموهومة، وهذا خطأ كبير، فبقاء المودة بين الأسرة والأصدقاء هو المكسب، ومن خسره فقد غبن في صفقته، ومن أساليب التفريط المخسر للعلاقات الأسرية والصداقات الانشغال عن الأقربين والأصدقاء بأشياء لا تدعو الحاجة إلى الانشغال بها من حواشي الأعمال وسفاسف الهوايات، وكذلك التضحية بحق الأولى بالعناية مقابل إعطاء من دونه فوق حقه، وللوالدين والأقربين أولويتهم المنصوص عليها في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رجل: يا رسول الله من أحق الناس بحسن الصحبة؟ قال: «أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك، ثم أدناك أدناك» أخرجه مسلم، فإن كان الانشغال عنهم بفضول العلاقات فذلك من أنكى أنواع الخسارة.




http://www.alriyadh.com/1876862]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]