بعد المقاربة السابقة (الخميس الماضي) "بين القصيدة والرسم"، أُقاربُ اليوم بين القصيدة والموسيقى.
حين الخليل بن أَحمد، الـمُلِمُّ موسيقيًّا، عمِلَ على ضبْط أَوزان العروض، لم يكُن لـ"يَسُنَّ" قواعدَ الشعر بل لـ"يضبُط" النظْم فلا يتفَلَّت على غير هُدًى، ويبقى على الشاعر أَن يرتفع بقصيدته من النظْم إِلى الشعر.
وحين غْوِيدو التوسكاني عمِلَ على ضبْط سُلَّم التنويط الموسيقي (دو-ري-مي...) لم يكن لـ"يسُنَّ" قواعد التأْليف الموسيقي بل لـ"يضبُط" الإِيقاع فلا يتفَلَّت على غير هُدًى، ويبقى على المؤَلِّف الموسيقيّ أَن يرتفع بمقطوعته من التنغيم المسطّح إِلى الميلوديا الجميلة.
وحين حدَّد اليونان الشعر بأَنه "عربةٌ يجرُّها حصانان: الشعور والخيال، يضبُطهما حُوذيٌّ حكيم هو العقل"، لم يكونوا ليحدِّدوا نهاية الطريق بل سلامةَ سلوكه.
وحين وضع اللغويُّون القواعد، لم يكونوا ليقدِّموا الخبز بل الطحين الذي يَصوغُ منه الفرَّان أَشكال الخبز.
هذا لأَقول إِن للشعر إِيقاعًا واضحًا لا للبحث عنه في "الموسيقى الخفية" ولا في "الإِيقاع الداخلي"، بل في نغَمية خارجية واضحة تَهدي سلامةَ سلوكِ الوزن إِلى مضمونٍ على الشاعر استنباطُه جديدًا إِبداعيًّا.
إِذًا، بين الاتِّباع والإِبداع: المفروضُ الاتِّباع في النُظُم شكلًا، والإِبداع في النَظْم مضمونًا. كلُّ شعرٍ فيه نَظْم، إِنما ليس في كل نَظْمٍ شِعر. قد يكون المدرِّس ناجحًا في تلقين تلامذته مبادئَ العَروض للنَظْم عليها، إِنما قد لا يَنظُمُ بيتَ شعرٍ واحدًا فيه إِبداع.
الموسيقى في الشعر هي "دو-ري-مي" الوزن. وكما حين نصغي إِلى سمفونيا جميلة، تأْخذُنا فيها الميلوديا فلا نعود "نشطِّرها" إِلى دو-ري-مي كي نتابع "طريقة" رصْفها بل يأْخذنا جمالُ الأَنغام، هكذا حين نصغي إِلى قصيدة جميلة، تأْخذنا فيها نغميةُ الوزن فلا نعود "نشطِّرُها" إِلى تفعيلاته كي نتابع رصفها بل يأْخذنا جمالُ الأَبيات.
التفعيلات، كما النوطات، مرساة. وكما المرساةُ تختفي في قعر البحر فلا تظهر، مع أَنها الأَصل في ضْبط حركة الباخرة فلا تتجارفها الأَمواج بل تأْمَن ثَباتها فلا تطُوح على غير هُدًى، هكذا التفعيلات تختفي خلف جمالِ معنًى يلبَس التفعيلات تركيبًا شعريًّا بارعًا فنتذوَّق الشِعر دون أَن "نرى" أَيَّ بحرٍ لبِس المعنى أَو أَيَّ وزنٍ اعتمدَ الشاعر، بل نأْمن متانة القصيدة فلا تَطوح على غير هُدًى.
هل العمود الشعري (صدرًا وعجُزًا وتقطيعًا ورويًّا وقافيةً) هو الأَصل، وبدونه لا يكون في القصيدة شعر؟
العمود الشعري أَصعبُ النحت الشعريّ. لا يقاربه إِلا شاعرٌ متمكِّنٌ لن يكبِّلَهُ "العمودُ" فيُسقِطَه في النظم المسطَّح والتطريب اللفظي المجَّاني.
لكنه ليس الشرطَ الوحيد.
هذا ما أُقاربه في مقال الخميس المقبل.




http://www.alriyadh.com/1876863]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]