انبثقت التوقيعات من الرسائل وارتبطت بها منذ نشأة الكتابة الفنية، وهي بمفهومها التراثي تعني: كل كتاب يكتبه من له أمر، أو نهي في أسفل الكتاب المرفوع إليه، أو على ظهره، أو في عرضه، وقد سمي توقيعاً؛ لأنه سبب وقوع الأمر وإنفاذه، من قولهم: أوقعت الأمر فوقع، وأعتقد أن المفهوم المعاصر للتوقيع الذي نستعمله اليوم هو امتداد لذلك المعنى القديم، نقول مثلاً: وقّعت على الخطاب، وهذا توقيعي، وهذا توقيع فلان، فاكتسب هذا اللون الرسائلي بُعداً سيميائياً.
وقد لا يجد بعض الباحثين وفرة، أو اهتماماً بالغاً في إثارة هذا الموضوع؛ لذا رأيت الإحالة في هذا المقال -ولو يسيراً- على بعض الكتب القديمة والحديثة التي تناولت هذا الفن واهتمت به، فمن ذلك مثلاً كتاب (الاقتضاب في شرح أدب الكتاب) لأبي محمد عبدالله بن محمد بن السيد البطليوسي (ت521هـ)، ومثله في هذا الباب كتاب (صبح الأعشى في صناعة الإنشاء)، لأحمد بن علي القلقشندي (ت821هـ) ، حيث اشتمل على بعض أشكال التوقيعات، وألوانها، وأنواعها، وبعض كتابها، ونماذج متنوعة منها، والكتب في ذلك كثيرة.
وأما النصوص الإبداعية للتوقيعات فهي متوافرة مع كتاب الرسائل الأوائل، إذ لا تجد كاتباً رسائلياً إلا وفي جعبته الكثير من التوقيعات، ولهذا لم يلتفت إليها كثيراً من قبل الباحثين والنقاد؛ لأنها كانت متوارية ضمن نصوص الرسائل، أو كانت تنشأ في ظروف معينة فتُنسى، والمتأمل في الرسائل قديماً سيلحظ ذلك جيداً، وسيدرك كيف أن التوقيعات كانت لصيقة بالرسائل، بل ولدت من رحمها الكتابي، ونشأت في حجرها الفني.
وللتوقيع علاقة وطيدة بالرسائل؛ إذ كان يخصص له سابقاً ديوان، كما هو الحال في الرسائل، واشتهر فيه كتّاب كثير في القرن الثالث الهجري؛ كالفضل بن سهل، وطاهر بن الحسين، وابنه عبدالله، والحسن بن سهل، وإبراهيم بن العباس الصولي، ومحمد بن عبدالله بن طاهر، وغيرهم، وقد قامت توقيعاتهم على عبارات موجزة بليغة تمتد من أسطر عدة إلى مقدار الرسالة المعتدلة، كما شهد القرن الرابع الهجري توهجاً ملحوظاً لهذا الفن، ظهر جلياً مع كتّاب الرسائل المبرزين، كابن العميد، والصاحب بن عباد، وغيرهما.
وعلى غرار كتب جمهرة (الأشعار)، وجمهرة (الخطب)، وجمهرة (الرسائل) ظهر كتاب مهم، وهو (جمهرة توقيعات العرب) للدكتورين: محمد محمود الدروبي، وصلاح محمد جرار، وقام بنشره مركز (زايد للتراث والتاريخ) بالإمارات عام 2001م، والكتاب يقع في سبعة أبواب، ويضم توقيعات الخلفاء، والملوك، والسلاطين، والأمراء، والوزراء، والقضاة والفقهاء، والشعراء والكتّاب، والنحاة، واللغويين، إضافة إلى بعض توقيعات النساء.
ويعد شيخنا الأستاذ الدكتور حمد بن ناصر الدخيل أستاذ الأدب والنقد في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية من الذين اهتموا بمثل هذا اللون الكتابي الفني الجميل، وذلك في دراسته القيمة (فن التوقيعات الأدبية في العصر الإسلامي والأموي والعباسي)، وقد نشرت هذه الدراسة في مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها، في العدد الثاني والعشرين، والمجلد الثالث عشر، عام 1422هـ، وهي في نظري من الدراسات البواكير التي أماطت اللثام عن هذا الفن.




http://www.alriyadh.com/1877179]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]