من الضرورة بمكان مراجعة ثقافة الوقف بشكل شامل، وإيجاد حلول ناجعة للمحظورات الشرعية التي تجعل الكثير يتوقف كثيراً عند المسلمات المتوارثة في إدارة الأوقاف، فتطوير الوقف بحاجة إلى وعي شرعي يساهم في صناعته علماء الدين، كما أنه بحاجة إلى وعي مجتمعي شامل..
الأسئلة المطروحة بشدة في الفترة الأخيرة حول مؤسسة الوقف تتركز حول: ما الغاية من الأوقاف الخيرية؟، التي يبدو أنها دخلت في نفق تقليدي تكراري يفتقر للتنوع لم تستطع الخروج منه منذ قرون، وتظهر تقليدية الوقف في مجتمعنا في تكرار المنافع التي يوقف الموقفون أموالهم من أجلها، وغالبا هذا التوجه نابع من الصورة الذهنية التي تشكلت عبر الزمن وتركزت في المنافع المادية المباشرة المرتبطة بالمساجد وخدمتها أو السقاية وقليل منها يوجه للعلم والثقافة أو بناء المؤسسات المهنية التي يمكن أن تساهم في تطوير المجتمع وتنميته، قبل فترة كتبت عن الوقف العلمي والثقافي ووجدت أنه يوجد قليل جدا من هذه الأوقاف في المملكة، وربما أكثر ما استوقفني هو الوقف العلمي في جامعة الملك عبدالعزيز الذي أراه متفردا في مجاله من حيث الفكرة، ولا أعلم كثيرا عن النتائج التي حققها حتى الآن.
والذي يظهر لي أن تغلغل الوقف التقليدي في الأذهان يمنع تطوره إلى عمل مؤسسي ينمو ويتطور مع الوقت، فعند مراجعة الأوقاف التاريخية، رغم قدمها وظهورها مع بداية الإسلام، أي حوالي 1400 سنة وأكثر، وجدنا أنه لا توجد مؤسسات وقفية ممتدة زمنيا أو أنها تحولت إلى أذرعه تنموية مع الوقت، بل إن كثيرا من تلك الأوقاف تبدأ قوية وتضعف مع الزمن إلى أن تندثر وتنتهي مع تقادم الوقت وتشتت نظارها والمسؤولين عن إدارتها. هذا الوضع لم يتغير كثيرا في وقتنا الراهن، حتى وإن كانت بعض المؤسسات التعليمية الخاصة (جامعات) تدعي أنها جامعات غير ربحية أي يفترض أنها وقفية لكن رسومها عالية جدا ولا يوجد لديها برامج واضحة لاستقطاب أبناء الوطن البارزين علميا والمحتاجين ماديا وتقديم منح دراسية لهم حتى نعتبرها أوقاف تستحق الدعم المجتمعي. هناك غموض بكل تأكيد حول مفهوم وإدارة الأوقاف بشكل عام، العلمية وغير العلمية، ودورها وتأثيرها التنموي والمجتمعي وهذا يتطلب وقفة جادة.
ويبدو أن هناك عددا من الإشكالات التي تواجه العمل المؤسسي الوقفي في ثقافتنا بشكل عام، تبدأ من كون أغلب الأوقاف فردية، وغالبا ما يريد الفرد أن يكون الوقف مسجلا باسمه ولا يقبل أن يندمج في أوقاف قائمة وهذا أضعف آلية الوقف عبر الزمن وحولها إلى ثروة مفتتة قابلة للضياع (بالطبع هناك حلول معاصرة لهذه الإشكالية عن طريق الصكوك والشركات الوقفية لكنها حتى الآن لم تثبت وجودها). الإشكالية الأخرى تكمن في عدم تحول الوقف إلى عمل مؤسسي بشكل مبكر والتركيز على مفهوم إدارة "نظار الوقف" التي إذا كانت متماسكة في جيل تشتت وضعفت في الأجيال التالية، المشكلة المؤسسية والإدارية للوقف ما زالت قائمة حتى اليوم، ولأن الوقف هو حبس للأصل والانتفاع بنتاجه، إذا فالأمر يتطلب ذكاء استثماريا خارجا عن عباءة الفكر الاستثماري التقليدي، وكل هذا يتطلب عملا مؤسسيا منظما ودقيقا. والقضية الثالثة من وجهة نظري هي أن الوقف يوجه غالبا للصرف والاستهلاك لا للتنمية والإنتاج الأمر الذي جعله يراوح مكانه، وأصبح غير مؤثر بشكل فعال في تطوير المجتمعات الإسلامية وحبسه داخل الفكر التقليدي التكراري.
قبل عدة أيام استوقفني مصطلح "الوقف التقني" وقد كنت في زيارة لجمعية ارتقاء الخيرية التي تهدف إلى الحفاظ على النعمة التقنية والحاسوبية على وجه الخصوص، فقد بدأت هذه الجمعية قبل أقل من عشرة أعوام كمحاولة لإعادة تأهيل أو تدوير الحاسبات الآلية التي لا ترغب في المؤسسات الحكومية والخاصة وكذلك الأفراد وإعادة توزيعها على المحتاجين بعد تأهيلها، الفكرة رائعة ومؤهلة كي تتطور لتصبح رافدا لإعداد كوادر وطنية قادرة على التعامل مع التقنية الحاسوبية على مستوى الأجهزة والبرامج خصوصا أن الجمعية بدأت في التدريب البرامجي ولديها خطة تدريبية واسعة جدا في المستقبل لتطوير الكوادر التقنية الوطنية من خلال فكرة "الوقف التقني" بالمشاركة مع عدد من المؤسسات الوطنية الحكومية والخاصة. لا يوجد عندي تفاصيل كاملة عن فكرة هذا الوقف لكنه من حيث المبدأ أراه عملا سيساهم في الاقتصاد الوطني من خلال إعداد أجيال من المؤهلين السعوديين المجربين في مجال تقنيات الحاسبات إضافة لكونه يقدم خدمة مباشرة للمحتاجين من أبناء المجتمع ويحافظ على البيئة من التلوث.
من الضرورة بمكان مراجعة ثقافة الوقف بشكل شامل وإيجاد حلول ناجعة للمحظورات الشرعية التي تجعل الكثير يتوقف كثيرا عند المسلمات المتوارثة في إدارة الأوقاف، فتطوير الوقف بحاجة إلى وعي شرعي يساهم في صناعته علماء الدين كما أنه بحاجة إلى وعي مجتمعي شامل بالمصارف المتعددة للوقف التي يحتاج لها المجتمع في قتنا الحاضر، وقد تكون مختلفة كليا عن تلك التي كانت في الماضي.
http://www.alriyadh.com/1877194]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]