قد ترى أن العمل عند العلماء والفقهاء كالإجماع لأخذهم بفضيلة الأمر والأحوط فيه لا لوجوبه ولكن لفضيلته، وهذا يفرق كثيراً وكثيراً، فمعرفة الحكم الشرعي يرفع الحرج عن كثير من الناس في الأخذ بالأعذار الشرعية، دون أن يشعر بحرج فعل الإثم، الذي إن طال به الأمر أصبح عنده الاستهتار بترك الواجب عادةً..
لم يكن الأمر اعتباطًا، بل كان إخفاؤهم كثيرًا من الأحكام نتيجةً لمشاورات ونظرات تخدم ما عليه أحبارهم ورهبانهم، والأهداف تتنوع ما بين الكسب المادي وأحيانًا يكون للمحافظة على المكانة والمنزلة التي تبوأها أولئك في نفوس الناس آنذاك، وقد جاءت الآيات في ذم هذا وتبيّنه تحذيرًا لهذه الأمة وفقهائها وعلمائها من أن يقعوا في ذلك السلوك «الخفي» المتلبس بصورة «التحليل والتحريم»، وهذا ما قاله الله تعالى {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله}، وفي الحديث أن عدي ابن حاتم قال: إنا لسنا نعبدهم يا رسول الله! فقال: «أليس يحلون ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه « قال: بلى، قال: «فتلك عبادتهم». فأحيانًا يخفون ما في الكتاب من أن الله أباح «كيت وكيت» ثم يخترعون ويحرفون ما به يحرمون ما أرادوه أن يكون ممنوعًا، والعكس صحيح أيضًا، فيبيحون ما حرم الله ويخفون ما في الكتاب من تحريم، وفيما نريد ضرب الأمثلة به في فقهنا الإسلامي من الفقهيات كثير جدّاً، وهو ما يسلكه بعض المتفقهة من باب الحرص على صلاح الناس وربطهم بدينهم، ولكنه كما يقال: «كم من مريد للخير لم يصبه»!
فكثير من الأحكام أطلقت في الناس وأعطيت صورة «الإجماع والاتفاق المسلم به» على أنه أمر مقطوع به ولا خلاف فيه، بحيث لا يتجرأ حتى من عنده «عذر شرعي» على مخالفة ما أظهره المجتمع من صورة الوجوب، بينما الأمر الواقع على خلاف ذلك تمامًا، فأكثر الفقهاء وجماهيرهم، لا يرون ترسيخ هذا الاعتقاد في المجتمع، بل هو حكم شرعي يجب أن يكون ظاهرًا لكل من اجتهد فيه أو أراد أن يقلد مجتهدًا فيه، وقد ترى أن العمل عند العلماء والفقهاء كالإجماع لأخذهم بفضيلة الأمر والأحوط فيه لا لوجوبه ولكن لفضيلته، وهذا يفرق كثيراً وكثيراً، فمعرفة الحكم الشرعي يرفع الحرج عن كثير من الناس في الأخذ بالأعذار الشرعية، دون أن يشعر بحرج فعل الإثم، الذي إن طال به الأمر أصبح عنده الاستهتار بترك الواجب عادةً، وهذا عائد على من غرس في نفسه أن الأمر محسوم، وأنه لا إمام لك ولا مذهب يقول بالرخصة في هذا الأمر، وهو في الحقيقة حرج كبير في حق كثير من الناس لجهلهم بالأمر، فتجد أحدهم يتجشم لفعل تلك العبادة تجشم من يؤدي الواجب ربما على ما هو أوجب منه في الوقت الآني، وفي الحديث عن ابن عمر، عن النبي قال: «إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة، فلا يقوم حتى يفرغ». زاد مسدد: وكان عبد الله إذا وضع عشاؤه -أو حضر عشاؤه- لم يقم حتى يفرغ، وإن سمع الإقامة، وإن سمع قراءة الإمام. قال الترمذي: وعليه العمل عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - منهم أبو بكر وعمر وابن عمر، وبه يقول أحمد وإسحاق، يقولان: يبدأ بالعشاء، وان فاتته الصلاة في الجماعة، وهذا مثال من كثير مما تفشى في المجتمع، بحيث أصبح فهم كثير من الناس للأمر عكساً تماماً، لما عليه الناس من تغليظ القول والإنكار على من انشغل ولو بعذر عن صلاة جماعة، أو عن جماعة قيام ونحوه، فربما بعضهم يترك مريضه، وآخر ربما ترك أباه أو أمه في حالة تستوجب بقاءه، وقد يأتي هنا بعض «الملاقيف» لكيل الاتهامات بالتزهيد في الصلاة، وتسهيل التلاعب بها للناس، وهذا يأتي منهم بدعوى الحرص، ولكنه في الحقيقة وقوع في مسلك «إخفاء الأحكام» عن الناس بما يشق عليهم، وبدعوى التعظيم والحرص، وتجاهلاً لفقه الأئمة والسلف وتقريرهم أن العمل بالشيء حرصاً على فضله لا يقتضي القول بوجوبه، ولا يستدعي إخفاء فقهياته، وما هذا إلا مثال والأمثلة كثيرة، هذا، والله من وراء القصد.
http://www.alriyadh.com/1877389]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]