إن الإنسان يتجه بقوة إلى مزيد من الاغتراب داخل المدن التي يعيش فيها، وإلى مزيد من موت الإحساس بالمكان ومن يسكنه، ويظهر لي أن هذا التصاعد الاغترابي هو جزء من المكون الجوهري الذي خلق الإنسان كي يصل له ليكتشف في النهاية أن البدايات المكانية المبكرة التي كان عليها، كانت تحقق له الاطمئنان والراحة والسعادة وكانت هي الحل الأمثل له..
أتذكر تلك البليدة التي يعرف فيها الناس بعضهم البعض، تتشابه البيوت والأزقة لكن الناس يميزون كل بيت، يعرفون ساكنه، بل يعرفون أباه وجده الذي مات منذ سنوات، يتذكرون من بقي، ومن رحل، ومتى بني البيت، ومتى تم إصلاحه آخر مرة، إنها بلدة الناس فيها جميعهم أقارب، ولكنهم ليسوا بالضرورة من دم واحد، بل أقارب جمعهم المكان ووحدت بينهم الحياة البسيطة المتقشفة، يستندون على بعضهم البعض في تلك البلدة، حتى كأنهم يشكلون جدرانها ويمثلون اتكاء بيوتها على بعضها. مدينة مؤلفة من أناس متواصلين مع بعضهم البعض منذ مئات السنين تذكرنا بالمثل الشائع "كلنا سكان قرية كل منا يعرف أخيّه"، يبدو أن هذا المفهوم لمدن الأقارب الذي يعبر عنه امتداد شجرة العائلة في المكان بدأ يتضعضع ويتفكك في وقتنا الراهن، حتى في تلك المدن التي كانت فيها تلك الامتدادات العائلية أساساً للتكوين الاجتماعي/ المكاني.
شكلت المقارنة بين مدن الأقارب مقابل مدن الغرباء محوراً للجدل الأكاديمي بين مجموعة من المهتمين بالعمران المعاصر المحير وما يعتريه من إشكالات مجتمعية وثقافية عميقة تجعله غير مكتمل رغم كل التطور التقني الذي نعيشه في الوقت الراهن، والمشكلة الأساسية هي أن من يدير المدينة لا يريد أن يتوقف عند هذه القضية، فهو يسلك طريق الإبهار من خلال خلق مشروعات البناء التي لا تحل المشكلات الاجتماعية لكنها تمثل مسكنات مؤقتة تجعل سكان المدينة يغضون البصر عن مشكلاتهم اليومية، الجدل ركز بصورة أساسية على أن التجمعات البشرية بدأت بتجمعات قرابية، وهو ما يؤكده الفرنسي "كلود ليفي شتراوس" في دراساته الأنثربولوجية اللافتة حول صلة القرابة، واستمر في تطوره الاجتماعي لكنه حافظ على تماسكه القرابي العمراني لآلاف السنين، حتى بدأت تظهر علامات التهجين الاجتماعي والثقافة غير المتجانسة إلى أن وصل إلى مفهوم المدن المتشظية اجتماعياً التي تميز مدن الغرباء في وقتنا الحاضر.
لقد أشار البعض إلى هذه التحولات المدينية في القرآن الكريم حيث تشير كلمة "بلدة" إلى المدينة القرابية الخالصة ذات الدم الواحد، وهي تجمع عمراني قرابي من الدرجة الأولى، ويمكن أن نلاحظ هذا في كثير من بلدات وسط وجنوب المملكة، حيث تتميز البلدة بصغر حجمها كونها تمثل عائلة واحدة، بينما يشير مصطلح "قرية" في القرآن إلى التجمع العمراني الذي يحتمل تنوع القرابة وتوسع امتداداتها العمرانية والبشرية والزمنية، أي أن القرية أوسع من "البلدة" وأكثر تنوعاً من الناحية العمرانية والثقافية، لكنها تظل مكوناً عمرانياً قرابياً لكن ليس بالضرورة أن تكون قرابة دم، لكنها قرابة ثقافة ونسب وارتباط مكاني موغل في الزمن، يأتي مصطلح "مدينة" القرآني ليثير كثيراً من الإشكالات حول مفهوم المدينة المعاصر، فالمصطلح هنا لا يعني بأي حال أن المدينة أكبر من القرية من حيث الحجم والسكان، لكنها بكل تأكيد هي مكون عمراني/ اجتماعي غير متجانس، ولا يتصف سكانه بالارتباط المكاني، والاتفاق القيمي.
ويبدو أن التصنيف القرآني للبلدة والقرية والمدينة يختلف عن تصنيفنا الحالي، إذ لم يعتمد الحجم أو عدد السكان بقدر ما ركز على هل من يسكن المكان أقارب أم غرباء عن بعضهم البعض؟ ويبدو أن تطور مصطلح المدينة أخذ في الاتساع وارتبط به الحجم والعدد، نتيجة لكونها مكان يجمع كل الناس، ومنها تطورت الأنظمة والقوانين (المدنية)، وعلى أي حال فإن التجمع البشري عادة ما تحكمه مجالات أربعة، هي: "المكون الاجتماعي" و"النشاط الاقتصادي" و"البيئة الطبيعية" و"الحوكمة". وغالباً ما تكون هذه المجالات متناغمة وبسيطة ومستدامة في حالة مدن القرابة، فلا فوارق طبقية، والنشاط الاقتصادي متقارب، والقرار جماعي، وتحكمه قيم جماعية، وبالتالي لا يوجد أي أضرار بيئية في الغالب، وهناك رضى مجتمعي شبه عام في تلك التجمعات، وبالطبع على العكس من ذلك نجده في مدن الغرباء حيث تتضارب المجالات الأربعة وهو ما تدور حوله جميع دراسات العمران والتحضر في وقتنا المعاصر.
لعل الدرس الذي خرجت به من هذا الحوار هو أن الإنسان يتجه بقوة إلى مزيد من الاغتراب داخل المدن التي يعيش فيها، وإلى مزيد من موت الإحساس بالمكان ومن يسكنه، ويظهر لي أن هذا التصاعد الاغترابي هو جزء من المكون الجوهري الذي خلق الإنسان كي يصل له ليكتشف في النهاية أن البدايات المكانية المبكرة التي كان عليها، كانت تحقق له الاطمئنان والراحة والسعادة وكانت هي الحل الأمثل له، وحتى يصل الإنسان من جديد إلى هذا الاكتشاف سوف يضطر أن يخوض تجارب وأفكار عديدة حول المدن الذكية، والمدن المستدامة، والمدن الخضراء، والمدن الإنسانية، والمدن السعيدة، والمدن المتسامحة، وفي نهاية المطاف سيصل إلى نتيجة واحدة هي أنه قد حقق تلك المدن منذ أمد بعيد لكنه تخلى عنها في فترة من تاريخه.
http://www.alriyadh.com/1879701]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]