نقل الدكتور سعد الصويان في كتابه (ثقافة الصحراء) نصاً طويلاً تحدث فيه ألاويس موزيل عن دور الذاكرة في اختلاف روايات القصيدة الشعبية الواحدة، ويكشف لنا هذا النص عن حقيقة يحاول الشعراء إخفاءها قدر الإمكان، وهي أن اختلاف روايات القصيدة أو البيت الواحد لا يمكن أن يقع اللوم فيه على الرواة دائماً، وأن الشعراء أنفسهم يتسببون في بعض الأحيان في انتشار روايات متباينة للقصيدة أو للبيت. يقول موزيل: «وإذا ما حدث أن بدويين يعرفان نفس الأبيات من نفس القصيدة فإنهم أبداً لا يروونها بنفس الترتيب وإنما يبدلون بعض الكلمات الأصلية، بل حتى الأبيات أحياناً. منشأ هذه التغييرات يعود أحياناً إلى تحسينات لاحقة أجراها الشاعر نفسه لكن المسؤولية في ذلك تقع غالباً على عدم اكتراث أصحابه ولا مبالاتهم. وغالباً ما يحتد النقاش بين البدو بخصوص صيغة الأبيات الأصلية ويعودون في أغلب الأحيان إلى الشاعر يسألونه عن ذلك، لكن حتى هو قد لا يعرف. وكثيراً ما يصر على أن كلمات البيت هي كذا أو كذا لكن رفاقه يعارضونه الرأي. عندها لا يملك الشاعر إلا أن يعلن بأن كل الروايات جيدة وصحيحة ويلجأ إلى القول بأن العلم عند الله». ويضيف موزيل: «بعد أن سمعت مثل هذه الإجابة من عدد من الشعراء توقفت عن البحث عن الصيغة الأصلية، إذ تبين لي أن الجهد ليس فقط بالغ الصعوبة وإنما غير ذي جدوى. وفي أحيان أخرى وجدت أن الشاعر نفسه لا يكاد يعرف الأبيات الأولى من قصيدة قالها هو. أما بقية الأبيات فقد نسيها ويسعده أن رفاقه يتذكرون منها أكثر مما يتذكر».
يشير هذا النص إلى سببين من أسباب اختلاف روايات القصيدة يتعلقان بالشاعر نفسه لا برواة قصائده، السبب الأول هو تصرّفه اللاحق في الأبيات بالتغيير مما يؤدي لوجود أكثر من رواية لها، والسبب الثاني، الذي يهمنا هنا، فيعزى للنسيان الذي يتحاشى الشاعر الاعتراف بسلطته على ذاكرته في بيئة تُتداول فيها الأشعار تداولاً شفهياً، وينظر فيها بإعجاب مفرط للشاعر القادر على حفظ قصيدته حفظاً جيداً بغض النظر عن المستوى الفني أو الإبداعي فيها!
وحين يلجأ الشاعر لتبسيط لغة قصيدته بحيث يسهل على المستمع تخمين عجز البيت بمجرد سماع صدره فإنه يحقق غايتين مهمتين: فهو يضمن تفاعل المتلقي تفاعلاً مباشراً مع أبياته، ومن جهة ثانية يسلم، إلى حد كبير، من مأزق تسرّب أو هروب الألفاظ من ذاكرته أثناء الإلقاء، وهذا ما يفسر لنا كثرة العبارات الجاهزة (أو القوالب الشعرية) في أشعار الشعراء الشعبيين الذين كان اعتمادهم على الذاكرة فقط. ومهما زعم الشاعر امتلاك ذاكرة حديدية فإن كثرة مناسبات النظم، ويقينه بأن الذاكرة لا يمكن أن تستمر في حفظ كل جديد بكفاءة عالية، كلها عوامل فرضت عليه استعمال لغة بسيطة وبعيدة عن التعقيد.




http://www.alriyadh.com/1882009]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]