تجديد الفقه الإسلامي يقتضي وصله بالواقع، ليكون الواقع الاجتماعي على أساس اتساق وانسجام دائمين مع الأحكام المنزلة، وبهذا يجري التوظيف والتطابق بين الواقع الاجتماعي ومؤسساته وعلاقاته بين الأحكام والأفكار..
في اعتقادي أن اللقاء التلفزيوني الأخير لولي العهد الأمير محمد بن سلمان، والذي جاء بمناسبة مرور 5 سنوات على إطلاق رؤية السعودية 2030، كان من أهم اللقاءات التي أجراها سموه على مدى السنوات الخمس الماضية تحديدًا؛ لأنه حمل الكثير من التفاصيل والمؤشرات الحيوية، من حيث تقديم السعودية الجديدة المنطلقة للعصر الجديد، المستندة على أساسها الدستوري الأبدي القائمة على "كتاب الله" و"السنة النبوية الشريفة"، على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
صحيح أن حوار الأمير محمد بن سلمان كان شفافًا وصريحًا -كعادته-، وخاض في أدق تفاصيل الملفات التي تهم الداخل السعودي بالدرجة الأولى من "البطالة" إلى "الاقتصاد"، و"مركزية الدولة"، كما لم يغفل المحيطين الإقليمي والدولي، وكانت رسائله واضحة للجميع بلا استثناء.
لكن من وجهة نظري الخالصة، أن أهم الموضوعات التي سلط عليها ولي العهد مع الزميل الإعلامي عبدالله المديفر، هو موقع "الاجتهاد الفقهي" من الدولة السعودية، والذي يستحق أن يكون العنوان الرئيس للمقابلة التلفزيونية، وشكل حولها الأمير محمد بن سلمان إطارًا معرفيًا واسعًا، طالما أنها لم تخرج عن النصوص القطعية الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتي نصَّ عليها النظام الأساسي للحكم.
من الإشارات المركزية التي جاءت ضمن سياق حديث الأمير محمد بن سلمان التلفزيوني، والتي أستطيع وصفها بالمعادلة الاجتهادية المتوازنة، وهي أن مرجع المسلم إن كان فرداً أو جماعة هو كتاب الله وسنة رسوله دون التقيد بمذهب معين أو عالم معين، وهو ما دلت عليه النصوص الصحيحة الصريحة، لذلك ما زال علماء وفقهاء المسلمين قديمًا وحديثًا ينهون عن تقليدهم ويأمرون بالرجوع إلى الوحي المعصوم، فالاجتهاد هو استفراغ الفقيه الواسع لتحصيل ظنٍّ بحكم شرعي، ويعني ذلك بأن يبذل المجتهد كامل طاقته في البحث والنظر، بحيث يحس من نفسه العجز عن بذل المزيد على ما قدّمه، (لتحصيل ظنٍّ بحكم شرعي) أي ليكون الحكم المحصَّل من الفقه؛ لأنه لا اجتهاد في القطعيات.
لقد وضع ولي العهد يده على مفصل مهم ضمن السياق الفقهي والشرعي، لذا كانت دعوته مفتوحة لجميع أتباع المذاهب بإعمال العقل، واستنباط مجريات العصر، بما لا يتعارض مع النصوص القطعية، ومن هنا كان الاجتهاد ضروريًا من ضروريات هذه الشريعة، وعنصرًا حيويًا من عناصر بقائها وخلودها، وهو سر مرونتها وصلاحيتها لكل زمان ومكان.
من خلال متابعتي لما يدور في منصات التواصل الاجتماعي، وعدد من قنوات اليوتيوب المحسوبة على أطراف لا تضمر الخير للمملكة -من دون تسميتها- حاولوا بكل استماتة الالتفاف على حديث ولي العهد بفعل أيديولوجي ضيق لا بنقاش موضوعي علمي رصين؛ من أجل تحقيق مواقف سياسية لا تسمن ولا تُغني من جوع، ولم يكتفوا بذلك بل أولوا الأمر وفق منطوق الهوى، ناهيك عن محاولاتهم لتشويه بعض الفقرات التي وردت في سياق كلامه، الذي أيدته "هيئة كبار العلماء" في موقعها الرسمي وحسابها على منصة "تويتر"، باختصار كلام الأمير محمد بن سلمان، كان بمثابة لسان حال كل مواطن سعودي يعتمد "منهج الاعتدال والوسطية".
في ضوء التحولات الكبيرة، وتشابك القضايا المختلفة وتعقدها، أتصور -والله أعلم- أننا بحاجة ماسة إلى ترسيخ المفهوم الاجتهادي، ومن أجمل ما قرأت في هذا الإطار ما جاء في مجلة "الإحياء المغربية، وهي مجلة محكمة تعنى بالعلوم الشرعية وقضايا الفكر الإسلامي في انفتاح نقدي ومستوعب لأهم اتجاهات الفكر الإنساني على الصعيد الكوني، وذكر فيها الأصولي الفقهي الدكتور بوشرى الشقوري، أن المقولة التي اشتهرت في الأدبيات الإسلامية المعاصرة، بأن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان لا تكون إلا بتقديم المعالجات الإسلامية المناسبة لكل زمان ومكان، وهذه المعالجات لا تستطيع أن تحمل اسم "إسلامية" إلا إذا حافظت على ثوابت الإسلام وانطلقت من قواعده الأساسية، ويعني ذلك أن الشريعة السمحة لها من القدرة المعرفية والمنهجية ما يؤهلها، لأن تطبق في كل عصر بحسب معطياته ومقتضياته، ووفق منهج الاجتهاد الذي يحمي الشريعة من أن تصاب بالجمود والتوقف، وهذا هو المحور الأساسي الذي طرحه ولي العهد السعودي وطالب به.
ولا أجد أفضل ما أختم به، من أن تجديد الفقه الإسلامي يقتضي وصله بالواقع، ليكون الواقع الاجتماعي على أساس اتساق وانسجام دائمين مع الأحكام المنزلة، وبهذا يجري التوظيف والتطابق بين الواقع الاجتماعي ومؤسساته وعلاقاته بين الأحكام والأفكار.. دمتم بخير.
http://www.alriyadh.com/1883639]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]